شكاوى المواطنين في غزة بشأن فقدان صناديق الأمانات في بنك فلسطين تكشف أزمة خطيرة تتجاوز حدود الخطأ الإداري إلى تهديد مباشر لمفهوم الأمان المصرفي وحقوق المودعين، خاصة في ظروف الحرب واللجوء القسري إلى البنوك كملاذ أخير لحفظ المدخرات والمستندات.
السرديات المتكررة عن صناديق "سُرقت" أو "فُقدت" في فرع لم يتعرض للقصف، مع غياب تحقيقات شفافة وردود رسمية جادة، تجعل القضية أقرب إلى فضيحة مالية وأخلاقية تهدد ما تبقى من ثقة الناس في النظام المصرفي.
صناديق أمانات تتحول إلى مصدر رعب
صناديق الأمانات وجدت أصلًا لحماية ما لا يمكن الاحتفاظ به في البيت: مدخرات العمر، الذهب، الإرث العائلي، والمستندات المصيرية، لكن ما يرويه أصحابها اليوم في غزة يشير إلى انقلاب المعادلة؛ مصدر الأمان تحوّل إلى مصدر رعب وقلق دائم.
رواية المتضررين أن الرد الأول من البنك كان أن "الصناديق سُرقت"، قبل أن تبدأ مرحلة المماطلة وتعدد الروايات، ما يطرح سؤالًا جوهريًا: من المسؤول عن تأمين هذه الصناديق داخل مؤسسة مالية تملك أنظمة حراسة وكاميرات وتأمينات مدفوعة؟ وكيف تُسرق صناديق كاملة دون تحقيق جنائي معلن أو بلاغ رسمي واضح للرأي العام؟
انتقائية مقلقة واستهداف لنساء مغتربات
الانطباع الأخطر في شهادات النشطاء وأصحاب الشكاوى هو "انتقائية" ما حدث؛ أغلب الصناديق المفقودة تخص نساء، كثيرات منهن مقيمات خارج غزة، ما يجعل الوصول إلى فروع البنك ومتابعة القضايا أكثر تعقيدًا بالنسبة لهن.
هذا النمط يفتح الباب أمام شبهة استغلال هشاشة وضع هؤلاء النساء، واعتبار غيابهن الجسدي عن القطاع فرصة للاعتداء على أماناتهن، خاصة حين ترتبط هذه الصناديق غالبًا بـ"تحويشة العمر" أو ذهب عائلي تم جمعه على مدى سنوات طويلة. غياب توضيح رسمي دقيق من إدارة البنك حول معايير الأمانات المفقودة يعمّق الشعور بأن ما جرى ليس حادثًا عرضيًا، بل خلل جسيم – وربما جريمة – تمس شريحة محددة من العملاء.
وعود بالأمان ثم إعلان مفاجئ عن الفقدان
تفاصيل حالة السيدة زينب عودة تكشف بوضوح نمطًا صادمًا: تواصل رسمي من البنك يؤكد أن "الصناديق في أمان" وأن بإمكانها تفويض شقيقتها لاستلام الذهب والمستندات، ثم بعد أيام قليلة يُقال لشقيقتها في فرع الجلاء إن الصندوق "ضمن الصناديق المفقودة" دون تفسير.
هذا التناقض بين تطمينات مكتوبة عبر قنوات رسمية وبين إعلان مفاجئ بالفقدان ينسف أي ادعاء بالشفافية أو المهنية، ويحوّل إدارة البنك من جهة موثوقة إلى طرف متهم بالتضليل، على الأقل في مستوى التواصل مع المتضررين. الأخطر أن هذه التحولات لم تُرفق بتحقيق علني أو مؤتمر صحفي أو كشف زمني لما حدث، بل بصمت ثقيل يزيد الشبهات.
مماطلة، تحديث بيانات، ثم صمت
يؤكد ناشطون وأصحاب صناديق أمانات أن تعامل البنك معهم اتسم بالمماطلة المتكررة: طلبات لا تنتهي لتحديث بيانات وأوراق، ردود من نوع "الصندوق غير جاهز للتسليم"، ثم فجأة تحول الخطاب إلى "الصندوق مفقود"، يعقب ذلك انقطاع شبه تام في الرد خلال الأسابيع الأخيرة.
هذا السلوك يوحي بمحاولة كسب الوقت أكثر من كونه سعيًا لحل الأزمة، ويفتح احتمال أن البنك نفسه لم يكن يملك رواية متماسكة عما جرى، أو أنه يحاول التغطية على خلل أمني أو إداري فادح داخل الفروع المعنية. في كل الأحوال، هذا الأسلوب يعكس ازدراءً واضحًا لحقوق العملاء، واستهانة بمشاعر أناس يعيشون صدمة مزدوجة: حرب من الخارج، وضياع أماناتهم من الداخل.
فرع لم يُقصف وصناديق "ضاعت"
إحدى النقاط المفصلية في غضب المتضررين هي أن فرع بنك فلسطين في الجلاء – الذي اختفت منه بعض صناديق الأمانات – لم يتعرض للقصف أو التدمير خلال فترة الحرب، وفق ما ينقله الشاكين.
إذا كان البنك يستند إلى "الكوارث" للهروب من المسؤولية، فإن السؤال الذي يطرحه أصحاب الصناديق مشروع: ما هي الكارثة التي حدثت تحديدًا في فرع لم يُقصف، وأين بلاغات السرقة أو التحقيقات الجنائية التي يفترض أن تُقدم للشرطة وسلطة النقد؟ غياب أي توثيق علني لهذه "الكارثة" المزعومة يجعل الحديث عن "إخلاء مسؤولية في حال الكوارث" محاولة مكشوفة لتحميل العميل وحده ثمن خلل لم يكن طرفًا في صناعته.
مسؤولية قانونية وأخلاقية لا يسقطها أي إخلاء
حتى لو صح أن بعض أصحاب صناديق الأمانات وقعوا على بنود تعفي البنك من المسؤولية في حال "الكوارث"، فإن المسؤولية الأخلاقية والقانونية لا تسقط بهذه السهولة، خاصة في حالات لم يُثبت فيها وقوع دمار مادي مباشر على الفرع أو سرقة موثّقة بتحقيق رسمي.
البنوك ليست مخازن خاصة، بل مؤسسات تخضع لرقابة المصارف المركزية والقوانين الناظمة للعمل المصرفي، وأمانات الناس ليست "مقامرة" مفتوحة على ضياع بلا مقابل. أي استخدام لعبارة "إخلاء مسؤولية" لتبرير فقدان ذهب ومدخرات ووثائق دون مسار تعويض واضح، أو بدون إعلان نتائج تحقيق مستقل، يعني عمليًا تشجيع الفوضى داخل القطاع المصرفي وضرب آخر ما تبقى من ثقة الجمهور فيه.
مطالب مشروعة بتحقيق شفاف وتعويض كامل
أصحاب صناديق الأمانات والناشطون لا يطالبون بمعجزة، بل بأبسط حقوقهم: كشف الحقيقة كاملة حول ما جرى، ومحاسبة المسؤولين عن أي إهمال أو تلاعب، وردّ الصناديق إن وُجدت، أو تعويض أصحابها تعويضًا كاملاً وعادلًا وفقًا لقيمة محتوياتها وتأميناتها.
في ظل الحرب، يصبح البنك ملاذًا أخيرًا لا يمكن السماح بتحوله إلى مصدر تهديد إضافي لحياة الناس وكرامتهم ومواردهم المحدودة. استمرار الصمت والتجاهل لن يؤدي إلا إلى تراكم الغضب وفقدان الثقة، ليس في بنك واحد فقط، بل في المنظومة المصرفية والرقابية بأكملها، وهو ثمن لا يحتمله مجتمع محاصر يواجه أبشع الظروف الإنسانية والاقتصادية في آن واحد.

