في تأكيد جديد على أن "القمع" هو اللغة الوحيدة التي يتقنها نظام الانقلاب في التعامل مع صرخات الجوعى والمظلومين، شنت ميلشيات الأمن حملة اعتقالات مسعورة استهدفت عمال شركة "مودرن جاس" للغاز الطبيعي في محافظتي سوهاج وقنا.

 

الجريمة التي ارتكبها هؤلاء العمال لم تكن سوى المطالبة بحقوقهم المسلوبة ورفض "نظام السخرة" المقنن عبر عقود الباطن. وقد فجرت هذه الهجمة الأمنية موجة غضب واسعة لدى المنظمات الحقوقية، التي اعتبرت ما يحدث "بلطجة دولة" تدار بالأمر المباشر، حيث تُستبدل طاولات المفاوضات بسيارات الترحيلات، ويُرد على مطالب العيش الكريم بكسر أبواب المنازل في منتصف الليل.

 

وتحولت قضية عمال "مودرن جاس" من مجرد نزاع عمالي إلى قضية رأي عام تفضح استراتيجية النظام في إدارة ملفات العمل، القائمة على حماية حيتان الفساد وشركات التوريد المشبوهة على حساب دماء وعرق العمال البسطاء، وسط صمت حكومي مريب يرقى لدرجة التواطؤ الكامل.

 

إرهاب أمني ومداهمات ليلية لكسر الإرادة العمالية

 

لم تكتفِ أجهزة أمن الانقلاب بتجاهل المطالب المشروعة، بل مارست دور "الجلاد" لصالح شركات المقاولات. ففي مساء الجمعة الماضي، شنت تلك القوات حملة مداهمات شرسة على بيوت العمال الآمنين، وألقت القبض على نحو 16 عاملاً من سوهاج وقنا، في مشهد أعاد للأذهان ممارسات الدول البوليسية في أحلك عصورها. الهدف الواضح من هذه الحملة هو ترويع باقي الزملاء وإجبارهم على إنهاء الإضراب السلمي بالقوة الجبرية.

 

وقد استنكرت المنظمات الحقوقية، وعلى رأسها "لجنة العدالة"، هذا النهج القمعي، مؤكدة أن اعتقال عمال يطالبون بحقوقهم هو جريمة وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان والدستور، ومحاولة بائسة لفرض "الصمت الإجباري" على قطاعات واسعة من الشعب باتت تئن تحت وطأة الغلاء وتدني الأجور.

 

"مافيا" عقود الباطن.. سرقة مقننة للأجور

 

جوهر الأزمة يكمن في ما وصفه مراقبون بـ "مافيا التوريد"، حيث يعمل العمال في شركة "مودرن جاس" –وهي شركة تعمل في قطاع حيوي واستراتيجي– منذ أكثر من عشر سنوات بنظام "عقود الباطن" عبر وسيط هو "الشركة العربية للتوريدات والمقاولات". هذا الوسيط، وبمباركة من إدارة الشركة الأم والجهات الحكومية، يمارس دور "الجابي" الذي يقتطع نحو 1300 جنيه شهرياً من رواتب العمال الهزيلة أصلاً، فضلاً عن حرمانهم من التعيين المباشر والأمان الوظيفي.

 

وكشفت "المفوضية المصرية للحقوق والحريات" في بيان شديد اللهجة عن أرقام كارثية، مؤكدة أن هناك نحو 2500 عامل (75% من قوة الشركة) يعملون بهذا النظام الجائر. هؤلاء العمال يتعرضون لنهب ممنهج، حيث يقتطع المقاول ما يصل إلى 30% من أجورهم، ليصبح ما يتقاضونه في النهاية أقل من "الحد الأدنى للأجور" الذي تتشدق به الحكومة إعلامياً ولا تطبقه واقعياً.

 

وطالبت المفوضية بفتح تحقيق عاجل في هذه "السرقة العلنية"، مشددة على أن استمرار الاقتطاع من أجر العامل مقابل تشغيله هو مخالفة للقانون الدولي ومبدأ "الأجر مقابل العمل"، وليس مجرد نزاع إداري، بل هو اتجار بالبشر في صورته الحديثة.

 

الدولة "رب عمل" فاسد.. والقطاع الخاص يقتدي بها

 

أخطر ما كشفته الأزمة هو أن حكومة الانقلاب نفسها هي التي ترسي قواعد ظلم العمال. فالدولة هنا هي المالك لشركات قطاع الأعمال العام والمرافق الحيوية، وحينما تتغاضى عن تطبيق القانون في مؤسساتها، أو تشارك في التربح من عرق العمال عبر شركات وسيطة، فإنها تعطي الضوء الأخضر للقطاع الخاص لانتهاك حقوق العمال بلا رادع.

 

وأشار بيان "المفوضية" إلى أن الدولة تدير مؤسساتها بمنطق "تقليص التكلفة" ولو على حساب حياة البشر، مخالفة بذلك مواد الدستور التي تكفل الأجر العادل والحق في الإضراب السلمي. كما أن استمرار استخدام عقود محددة المدة لعشر سنوات في أعمال دائمة يعد تحايلاً قانونياً مفضوحاً لحرمان العامل من الاستقرار.

 

انتفاضة الغضب.. من السكر إلى الغاز

 

من جانبه، وضع مكتب عمال "حزب التحالف الشعبي الاشتراكي" إضراب "مودرن جاس" في سياقه الأوسع، مؤكداً أنه ليس حدثاً معزولاً، بل حلقة في سلسلة من الاحتجاجات العمالية التي ضربت قطاعات الغزل والنسيج، الكهرباء، المياه، السكر، والألومنيوم خلال الأشهر الستة الماضية. هذه الموجة الاحتجاجية تكشف عن فشل ذريع للسياسات الاقتصادية للنظام، وعجز هيكل الأجور الحالي عن مجاراة الارتفاع الجنوني في تكاليف المعيشة.

 

وأكد الحزب أن لجوء النظام للحل الأمني والقبض على العمال بدلاً من الاستجابة لمطالبهم يعكس رعب السلطة من اتساع رقعة الاحتجاجات، ومحاولتها فرض "السلم الطبقي" بالقوة الغاشمة. لكن التجارب التاريخية تؤكد أن "القبضة الأمنية" لم ولن تنجح في قمع ثورة الجياع، وأن العمال الذين يطالبون بحقهم في التعيين ووقف السرقات من رواتبهم يمثلون قنبلة موقوتة لن يستطيع النظام تفكيكها بالاعتقالات.

 

الخلاصة

 

إن ما يجري في سوهاج وقنا هو نموذج مصغر لكيفية إدارة مصر في عهد الانقلاب: فساد إداري يحمي المنتفعين، وقبضة أمنية تسحق المعترضين، وعمال مطحونون بين مطرقة الغلاء وسندان الاعتقال. والمطالب باتت واضحة ولا تقبل التسويف: الإفراج الفوري عن المعتقلين، إلغاء عقود السخرة (الباطن)، والتعيين المباشر لمن أفنوا أعمارهم في خدمة هذا القطاع.