محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع
في حال طُبّق الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب، بالنظر في ما إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن ولبنان "إرهابيةً"، وأُقرَّ ذلك وعُمِل به بعد المدة المفترضة في القرار نفسه، فستكون لهذا التحوّل آثار كبيرة وخطيرة تتجاوز إشكالية أو قصة العقوبات المطروحة على هذه الجماعات، بل ستؤدّي إلى تفاقم الأزمات السياسية والأمنية في العالم العربي من جهة، وتعزيز منظور "صدام الحضارات" من جهة ثانية؛ طالما أنّ الإسلام السياسي السلمي والراديكالي كليهما غير مقبولَيْن لدى الإدارة الأميركية، فإنّ النتيجة هي الدفع بتصعيد كبير داخل الدول العربية نفسها، وبين التيارات الإسلامية الرئيسية في العالم العربي والإسلامي والغرب.
سابقًا ، وبالرغم من الخطاب المتحفّظ المتبادَل بين الطرفين تاريخيًا ، أي بين الحكومات الغربية والتيارات الإسلامية، إلّا أنّ ذلك لم يحُل دون أن تتوطّن مجموعاتٌ كثيرة مرتبطة بالإخوان المسلمين، وبالإسلاميين عمومًا في الدول الغربية، وأن تجد في النظام الديمقراطي هناك مساحة واسعة للعمل والنشاط. والحال كذلك في الولايات المتحدة؛ إذ فرّخت الجماعات الإسلامية المعتدلة والسلمية، والأفراد المرتبطون بها، شبكاتٍ من الجمعيات والمؤسّسات ذات الطابع الخيري والدعوي في أميركا وعديد من الدول الغربية.
لم تكن هذه السياسات الغربية (بالسماح للإسلاميين بالنشاط والعمل) لتُرضي دولًا عربيةً عديدة ترى فيهم الخصم اللدود والعدو الأول لها؛ فكانت هنالك ضغوط على الحكومات الغربية، في محاولة لإبعاد أو لجم أنشطة هذه الجمعيات وهؤلاء الأفراد، لكن كانت "قيم الديمقراطية" تمنع الدول الأوروبية وأميركا من اتخاذ خطوات حاسمة ضدّ هذه الأنشطة، من دون أن تتمكّن (في المقابل) من تطوير منظومةٍ من المصالح والتشابكات واللوبيات مع دوائر القرار في أوروبا وأميركا، فاكتفت هذه الجماعات باعتبار تلك الدول مساحات للعمل والنشاط الحرّ. إذن، ما الذي تغيّر حتى وصلنا إلى الأمر التنفيذي الحالي للرئيس ترامب، الذي قد يؤدّي إلى أن تقتدي به دول أوروبية وغربية أخرى، في الحدّ من الأنشطة الإسلامية؟
يتعلّق الجواب بسياق مركّب؛ يرتبط المستوى الأول بالمجتمعات الغربية نفسها وصعود اليمين المعادي للمهاجرين والمسلمين، وظاهرة "الإسلاموفوبيا". ومن جهة أخرى، ما يمكن أن نطلق عليها "الترامبية" السياسية؛ إذ لا يخفى أنّ ترامب نفسه كان قد حاول، في حقبته الأولى، تصنيف "الإخوان" جماعةً إرهابية، ثم عاد حاليًا إلى القيام بذلك. فهو معادٍ بصورة ملحوظة للتيارات الإسلامية، وكان قد حذّر أوروبا من انتشار هذه التيارات، ويعمل على التضييق على المهاجرين بصورة عامة. أما المستوى الثاني فيرتبط بالحرب على غزّة وتداعياتها؛ إذ من الملاحظ أنّ الأمر التنفيذي لترامب باعتبار هذه الجماعات إرهابية سوَّغ ذلك بالمواجهة مع إسرائيل ودعم حركة حماس، ما يكشف حجم التغلغل الكبير للوبي الصهيوني في إدارة ترامب وتأثيره على مواقفها وسياساتها تجاه القضية الفلسطينية.
في هذا السياق، لا يخفى أنّ جهدًا وتحريضًا كبيرَيْن بذلهما عديد من مراكز التفكير والبحث الصهيونية في الولايات المتحدة للوصول إلى هذا القرار التنفيذي، ومن الواضح أنّ هذه اللوبيات ليست منفصلةً عن بعض السياسات العربية التي أصبحت تعمل، بصورة غير مباشرة، من خلالها لمواجهة الإسلام السياسي وقواه وشبكاته المنتشرة في الغرب. وستعمل هذه اللوبيات (في الفترة المقبلة) على توسيع القائمة التي ستشملها العقوبات الأميركية لتضمّ أكبر عدد ممكن من الجمعيات والشبكات والأفراد المحسوبين بصورة مباشرة أو غير مباشرة على جماعة الإخوان المسلمين.
تصنيف الجماعة تنظيمًا إرهابيًا هو بمثابة انتصار رئيس للتيار المحافظ في السياسات الأميركية المتحالف مع اللوبي الصهيوني، وقد سعى هذا التيار منذ عقود للوصول إلى هذه النتيجة عبر الضغط والتحريض والمراقبة المستمرّة لعمل الشبكات الإسلامية المنتشرة هناك، بينما كان هنالك (في المقابل) تيار منفتح في الأوساط الأميركية وفي مراكز البحث والتفكير يرفض وضع تيارات الإسلام السياسي جميعًا في حزمة واحدة، ويميّز بين الإسلام السلمي الذي يعلن إيمانه بالوسائل السلمية والديمقراطية ويرفض العنف، والتيار الراديكالي الإسلامي الذي يتبنّى العنف والتفسير المتطرّف للدين.
في المقابل، الماكينة الصهيونية واللوبي المحافظ في الدوائر الأميركية يرفضان هذا التقسيم للتيارات الإسلامية، ويريان أنّها جميعًا تشترك في الأهداف والخصائص الاستراتيجية، حتى لو اختلفت التكتيكات. وهو موقفٌ يتقاطع مع سياسات دول عربية كثيرة ويتوافق معها، بخاصة بعد "الربيع العربي"، إذ جرى تصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعةً إرهابيةً فيها.
صحيح أنّ الغلبة عادةً في دوائر القرار الأميركي كانت للتيار المتشدّد ضدّ الإسلاميين، لكن ذلك كان في حدود الخشية من وصولهم إلى السلطة في العالم العربي. وقد حدث اختراقٌ رئيسٌ في مرحلة أوباما و"الربيع العربي"، عندما صعد صوت التيار المنفتح في الأوساط الأميركية لمنح الإسلام السياسي فرصةً في السلطة، إلّا أنّ هذا التيار تراجع مع الانتكاسات السياسية العربية اللاحقة. واليوم، مع إدارة ترامب، وصل التيار المتشدّد إلى تعزيز خطاب العداء للإسلاميين عمومًا ، ويمثّل هذا الأمر التنفيذي ذروة خطاب هذا التيار في داخل الولايات المتحدة وخارجها، وتتقاطع ثلاث قوى رئيسة في دعمه وتنفيذه: اللوبي الصهيوني التقليدي، والصهيونية المسيحية، واللوبيات العربية المعادية للإسلاميين في واشنطن.
تتمثل التداعيات المتوقعة للأمر التنفيذي للرئيس ترامب في التضييق والعقوبات الاقتصادية على عديد من الجماعات والكيانات والأفراد الذين سيُربطون بـ"الإخوان المسلمين" في هذه الدول الثلاث (وهي الدول الرئيسة التي تنشط فيها الجماعة)، ما سيؤدي إلى وضعها جميعًا في التصنيف نفسه الذي توضع فيه جماعات مثل تنظيمَي الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، وربّما ينعكس ذلك على الأوضاع الإقليمية، وحتى على دول أوروبية عديدة.
إذا أخذنا بالاعتبار حجم النشاط الكبير والانتشار الواسع لجماعة الإخوان المسلمين، ومؤيّديها عربيًا وغربيًا ، وما يمثّلونه من قواعد اجتماعية داخل العالم الغربي وفي التجمعات المسلمة في الغرب، فإنّ هذا الأمر التنفيذي سيؤدّي إلى تعزيز (وتعظيم) المشاعر المعادية للولايات المتحدة، والمشكِّكة في إيمانها وإيمان الدول الغربية معها بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وسيضع الولايات المتحدة، ليس في حالة صدام مع التيارات الجهادية فقط (كما الحال في الحرب على الإرهاب)، بل أيضًا مع التيارات الإسلامية جميعًا .
إذا أضفنا إلى ما سبق الأزمة مع إيران واحتمال تدهور الأمور نحو مواجهة عسكرية مرّة أخرى، وإذا وضعنا الجماعات والتيارات الدينية المؤيّدة لإيران في المنطقة في الحزمة نفسها، نكون أمام شريحة كبيرة وواسعة وقوى عديدة في العالميْن العربي والإسلامي، والغرب جميعًا ستكون في مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع الولايات المتحدة وسياساتها؛ وكأننا "نُفخِّخ" المرحلة المقبلة مسبقًا بهذه القرارات التي ستكون عاملًا رئيسًا من عوامل عدم الاستقرار الإقليمي، بالإضافة إلى العامل الرئيس الذي يمثّل أحد أهم مفاتيح هذه الأزمات؛ القضية الفلسطينية، إذ من الواضح أنّ الإسرائيليين تجاوزوا تمامًا مسألة السماح بإقامة دولة فلسطينية، وألغوها من قاموسهم السياسي.

