يشهد زمن الانقلاب الدموي بقيادة السيسي واحدة من أخطر مراحل العبث بقوت المصريين، حيث لم يعد الحديث عن أزمة خبز أو خلل في منظومة تموين، بل عن سلطة حاكمة تتواطأ مع الفوضى والفساد وتترك الغلابة فريسة لجشع أصحاب المخابز وغياب الرقابة الحقيقية. فرغيف الخبز البلدي الذي يفترض أن يكون آخر خط دفاع في مواجهة الجوع، صار اليوم يباع في كثير من المناطق بأكثر من 20 قرشًا للرغيف، بالمخالفة الصريحة للسعر الرسمي المعلن على بطاقات التموين، في الوقت الذي تروج فيه حكومة السيسي لخطاب دعائي يؤكد "ثبات سعر الرغيف" وحماية الفئات الأكثر احتياجًا.

 

من حيث المبدأ، تعلن الحكومة ووزارة التموين وشعبة المخابز أن سعر الرغيف المدعم ثابت عند 20 قرشًا، وأن الدولة تتحمل فارق التكلفة لصالح أصحاب المخابز بحجة الحفاظ على المنظومة وضمان وصول الدعم لمستحقيه. لكن ما يجري على أرض الواقع مختلف تمامًا؛ إذ تكشف التحذيرات الأخيرة الصادرة عن شعبة المخابز نفسها عن رصد مخالفات واسعة تشمل بيع الرغيف المدعم بأسعار أعلى من المقرر، والتلاعب في المنظومة الإلكترونية عبر إخراج ماكينة صرف الخبز من داخل المخبز لاستخدامها بطرق غير قانونية، خصوصًا في بعض المخابز السياحية التي تحاول الاستفادة من دعم لا تستحقه.

 

هذه الصورة تكشف تناقضًا صارخًا بين خطاب رسمي يروج للانضباط والرقابة، وبين واقع يعاني فيه المواطن الفقير من ابتزاز يومي عند شباك المخبز. فالمصري الذي يفترض أن يحصل على رغيفه المدعم بالسعر "الثابت" يواجه في الحقيقة سيناريوهات متعددة للاستغلال: إما تقليل وزن الرغيف، أو رداءة جودته، أو بيعه بزيادة صريحة على السعر المعلن، أو إجباره على شراء خبز سياحي بأسعار مضاعفة بحجة عدم كفاية الحصة أو تعطل النظام. كل هذا يحدث بينما تتفاخر الحكومة بأنها "لم تمس سعر الرغيف".

 

تحذير شعبة المخابز الأخير لأصحاب الأفران من بيع الرغيف بأكثر من 20 قرشًا، ومن إخراج ماكينة صرف الخبز من المخبز، ليس دليلًا على قوة الدولة كما تحاول أبواق النظام أن تروج، بل اعتراف ضمني بأن منظومة الدعم تتعرض لعمليات تلاعب ممنهجة، وأن الرقابة الحكومية إما عاجزة أو متواطئة. فلو كانت الرقابة فعالة، لما اضطر رئيس شعبة المخابز إلى الظهور في الإعلام للتأكيد على "عدم التهاون مع المخالفين" والتشديد على أن سعر الرغيف ثابت نظريًا عند 20 قرشًا، بينما يشكو الناس عمليًا من استنزافهم في طوابير العيش.

 

الأخطر أن هذه الفوضى لا يمكن فصلها عن سياسات السيسي الاقتصادية التي حولت الدعم من حق اجتماعي إلى أداة للمساومة السياسية والمالية. ففي الوقت الذي يعلن فيه المسؤولون أن تكلفة الرغيف على الدولة تتجاوز الجنيه الواحد، وأن الدولة تتحمل الفارق "حمايةً للمواطن"، جرى رفع سعر الخبز المدعم من 5 قروش إلى 20 قرشًا في السابق، بما خفّض من فاتورة الدعم لصالح خزانة نظام يغرق في الديون والمشروعات الاستعراضية. ومع موجات الغلاء وتحريك أسعار السولار وارتفاع تكاليف الإنتاج، تحول هذا الفارق إلى شماعة يستغلها أصحاب المخابز وبعض مسؤولي المنظومة للضغط من أجل مزيد من الدعم النقدي لهم، مع ترك المستهلك نهبًا للفوضى في السعر والوزن والجودة.

 

إن الحديث الرسمي المتكرر عن "ثبات سعر الرغيف" يتحول في الواقع إلى أداة تضليل سياسي؛ فالحكومة تستخدم الرقم 20 قرشًا في بياناتها وإعلامها لتمرير فكرة أن الفقراء ما زالوا محميين، بينما تعرف تمامًا أن آليات التنفيذ مخترقة، وأن المواطن يدفع أكثر من هذا الرقم، إما مباشرة في سعر الرغيف أو غير مباشرة عبر تقليص الكمية وفرض أنماط استهلاك تجبره على شراء الخبز الحر أو السياحي بأسعار مرتفعة. وهذا يعني عمليًا أن النظام نقل عبء الأزمة من موازنة الدولة إلى جيوب الفقراء، ثم ادعى أنه لم يمسّ "سعر الدعم".

 

كما أن ملف المخابز يكشف شكلًا صارخًا من أشكال المركزية الفاشلة؛ فالوزارة تصدر قرارات لتعديل تكلفة التصنيع وتحميل هيئة السلع التموينية فارق الأسعار بحجة الحفاظ على الجودة واستمرار الدعم، بينما يتبقى التطبيق الحقيقي رهينة شبكة مصالح محلية من مفتشي تموين ومسؤولين وأصحاب مخابز، كثير منهم يعمل بمنطق "السمسرة على الدعم" لا خدمة المواطن. العقوبات التي تتحدث عنها الشعبة – من سحب الحصة إلى وقف الترخيص – تبدو في كثير من الحالات نصوصًا ورقية، لأن البنية السياسية نفسها تشجع على الإفلات من العقاب مادامت الأولوية حماية صورة النظام لا حقوق الناس.

 

في جوهر المسألة، لا يدفع ثمن هذه السياسات سوى المصري الفقير الذي تحوّلت طوابير العيش بالنسبة له إلى معركة بقاء يومية. الحديث عن "دعم الخبز" بلا شفافية ولا رقابة مستقلة ولا إعلام حر، يعني أن النظام يمتلك رواية واحدة يكررها، بينما يتم إسكات أو تشويه أي صوت يوثّق حجم الانتهاكات في منظومة الدعم أو يفضح تلاعب أصحاب المخابز وشبكات الفساد المرتبطة بهم. وهنا تتجلى خطورة غياب الديمقراطية؛ فحين تغيب المحاسبة والبرلمان الحقيقي والإعلام المستقل، يصبح رغيف الخبز نفسه أداة قهر يمسك بها النظام أعناق الفقراء.

 

إن ما يحدث اليوم في ملف الخبز المدعم ليس مجرد فساد جزئي في بعض الأفران، بل نموذج مصغر لطبيعة حكم السيسي: قرارات فوقية، إعلام دعائي، وواقع قاسٍ يدفع ثمنه الأكثر فقرًا. السلطة التي أنفقت مئات المليارات على عاصمة إدارية وقصور وجسور لا تنتهي، تعجز – أو تتعمد العجز – عن بناء منظومة عادلة تضمن وصول رغيف الخبز للمواطن بالسعر المعلن والوزن الكامل والجودة المقبولة. وبدل أن يُقدَّم المتلاعبون بأقوات الناس إلى محاكمات علنية حقيقية، يجري الاكتفاء ببيانات رنانة عن "عدم التهاون مع المخالفين" دون تغيير ملموس يشعر به ملايين الجياع.

 

, وأخيراً فإن معركة الخبز اليوم ليست معركة أصحاب المخابز وحدهم، بل معركة مجتمع بأكمله في مواجهة نظام حوّل أبسط حقوق الإنسان – حقه في رغيف خبز كريم – إلى ملف أمني واقتصادي مغلق، لا يُسمح لأحد بمراجعته أو محاسبته. استمرار بيع الرغيف المدعم بأكثر من 20 قرشًا، أو تقليص وزنه والتلاعب في منظومته، هو إدانة مباشرة لحكومة السيسي ومنظومة حكمه، التي أثبتت مرة بعد أخرى أن استقرار سلطة العسكر عندها أهم بكثير من استقرار لقمة عيش المصريين.