في خطوة تكشف حجم السيطرة الأمنية على مفاصل التشريع في مصر، صدّق قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي على قانون الإجراءات الجنائية الجديد بعد إعادة إرساله للبرلمان لإدخال تعديلات طلبتها الرئاسة.
ورغم أن السيسي برّر الخطوة بأنها من أجل "تعزيز ضمانات الحقوق والحريات"، فإن الواقع – بحسب حقوقيين – يكشف أن هذه التعديلات عمّقت خنق الحريات وأعادت إنتاج القوانين التي رسّخت القبضة الأمنية منذ 2013، في انقلاب كامل على روح العدالة والدستور.
القانون، الذي أثار موجة غير مسبوقة من الرفض الحقوقي والقانوني، لم يأتِ لتعزيز ضمانات المتهمين أو إصلاح منظومة العدالة، بل جاء – كما يرى مراقبون – ترجمة حرفية لإرادة الأجهزة الأمنية التي تضغط منذ سنوات لشرعنة ممارسات غير دستورية، على رأسها الاستجواب دون حضور محامٍ وتمديد الحبس الاحتياطي.
8 مواد “معدّلة”: رئاسة الانقلاب تتدخل… والأمن يكتب التشريع
أعاد السيسي مشروع القانون للبرلمان بذريعة أن هناك 8 مواد لا تحقق “التوازن” بين العدالة والحقوق الدستورية.
لكن الحقيقة التي كشفها حقوقيون أن هذه المواد تم تغييرها بهدف زيادة صلاحيات النيابة والشرطة، وليس لتقوية حقوق المتهمين.
من أخطر هذه المواد تعديل المادة 105 التي باتت تسمح للنيابة باستجواب المتهم دون حضور محامٍ في “حالات معينة” – نفس الصياغة المطاطية التي تُستخدم دائمًا لتمرير الانتهاكات.
وبالتوازي، تظل المادة 64 قائمة وتسمح لضباط الشرطة بالاستجواب دون محامٍ أيضًا.
بهذا يصبح حق الدفاع – أحد أقدس الحقوق الدستورية – ترفًا يمكن للسلطة حرمان المتهمين منه متى شاءت.
نقابة المحامين والصحفيين: القانون يقوض الحقوق الأساسية
واجه القانون موجة اعتراضات واسعة شملت:
- نقابة المحامين
- نقابة الصحفيين
- حقوقيين وقانونيين
- أعضاء في البرلمان (رغم أن الأغلبية الساحقة موالية للنظام)
الاعتراضات ركزت على أن القانون ينتهك الدستور بشكل مباشر عبر:
- شرعنة الاستجواب دون محامٍ.
- تجاهل أزمة الحبس الاحتياطي المفتوح.
- استمرار “تدوير القضايا” التي تبقي المتهم داخل السجن بلا محاكمة حقيقية.
- إهدار ضمانات المتهم أثناء التحقيق.
- تجاهل توصيات “الحوار الوطني” الذي استخدمته الدولة كواجهة ثم دهسته عند أول اختبار.
رغم كل ذلك، مرّر البرلمان القانون خلال ساعات، في مشهد يجسّد تحوّل المجلس إلى مكتب تصديق على إرادة السلطة التنفيذية والأمنية.
الأمن يكتب… والسيسي يوقّع… والبرلمان يصفّق
كشف عضو بالمجلس القومي لحقوق الإنسان – في تصريح سابق لصحيفة “مدى مصر” – أن وزارة الداخلية أصرت على أن يخرج القانون بالشكل نفسه تقريبًا الذي صيغ به في 2017، أي في ذروة التضييق الأمني.
هذا التصريح وحده يكشف الحقيقة كاملة: الجهات الأمنية هي الجهة الفعلية التي تكتب التشريعات الجنائية في مصر، بينما البرلمان والرئاسة يوفران الغطاء الدستوري الشكلي.
وتؤكد مصادر برلمانية أن رفض الأمن تعديل بعض المواد “الحساسة” أدى إلى إسقاط ملاحظات اللجنة التشريعية نفسها، رغم أنها تتوافق مع الدستور.
بهذا يتحول القانون إلى مجرد أداة قمع تمت هندستها لخدمة الدولة الأمنية، وليس لخدمة العدالة أو حماية المجتمع.
الحبس الاحتياطي: الجريمة المسكوت عنها في القانون الجديد
رغم أن واحدة من أخطر مشكلات العدالة في مصر اليوم هي الحبس الاحتياطي الذي يتحول فعليًا إلى عقوبة بلا محاكمة، فإن القانون الجديد تجاهل تمامًا:
- وضع سقف زمني ملزم للحبس الاحتياطي
- وقف تدوير المتهمين
- ضمان عرض المتهمين أمام قاضٍ مستقل
- حماية المتهمين من التعسف الأمني
بهذا يظل آلاف المصريين، بينهم محامون وصحفيون وطلاب، قيد الاعتقال المفتوح لسنوات دون محاكمة، في ظل قانون صُمم عمدًا لعدم معالجة أصل المشكلة.
قانون “حماية الأمن”… أم قانون “قمع المواطنين”؟
المشهد اليوم واضح: القانون الجديد ليس إصلاحًا تشريعيًا، بل هو تعزيز للقمع تحت لافتة “الإجراءات الجنائية”.
السيسي – الذي سلّم التشريع للأجهزة الأمنية – يسعى عبر هذا القانون إلى:
- توسيع سلطة النيابة
- شرعنة الاستجواب دون محامٍ
- إدامة الحبس الاحتياطي
- إغلاق الباب أمام أي إصلاح قضائي حقيقي
- حماية ضباط الداخلية من المساءلة
وبذلك تتحول منظومة العدالة في مصر من مؤسسة لضمان الحقوق إلى سلاح قانوني في يد السلطة.
قانون جديد.. وقمع قديم
بعد شهور من الجدل، حُسمت المعركة: الأمن انتصر… والحقوق هُزمت.
قانون الإجراءات الجنائية الجديد ليس إلا حلقة جديدة في مشروع أكبر يهدف إلى ترسيخ دولة بلا مساءلة، بلا قضاء مستقل، بلا حقوق، وبلا سياسة.

