قرّرت جهات التحقيق في القاهرة إخلاء سبيل ضابط شرطة كويتي وصديقه (مجند مفصول) بكفالة 50 ألف جنيه لكلٍّ منهما، على ذمّة اتهامهما بالتحرّش بفتاة على كورنيش النيل قرب أبراج «نايل سيتي».
القرار جاء سريعًا بعد ساعات من الضبط، مع نفي الضابط ارتكاب التحرّش واعتراف صديقه بسلوك «غير منضبط»، لتتواصل التحقيقات فنّيًا وقانونيًا.

غير أن الواقعة انفجرت في فضاء عام مثقل بمشهد حقوقي خانق: عشرات الآلاف من المصريين رهن الحبس الاحتياطي أو المحاكمات ذات الطابع السياسي؛ مشهد يضع «استقلال» القضاء تحت مجهر الأسئلة لا الشعارات.
 

الواقعة… وقفة سريعة على الوقائع
بحسب تغطيات صحفية محلية، تُظهر كاميرات ومقاطع متداولة اعتراض فتاة ومضايقتها بمحيط «نايل سيتي»، لتتحرك الأجهزة الأمنية وتلقي القبض على المتهمين، ثم تُخلي جهات التحقيق سبيلهما بكفالة 50 ألف جنيه لكل منهما، مع إبقائهما تحت الاستدعاء لحين حسم التكييف الجنائي (تحرّش بالملامسة أم اعتراض طريق ومشادة).
تكرّرت تفاصيل: السنّ (قرابة 27 عامًا)، وصف الصفة الوظيفية، ومسار الضبط، مع اختلافات طفيفة بين الصحف.
 

«استقلال القضاء» بين النصّ والواقع
على الورق، الاستقلال مبدأ دستوري راسخ. لكنّ تقارير حقوقية ودولية تتهم السلطة التنفيذية بإخضاع بنية العدالة عبر تغييرات تشريعية وإجرائية: من توسيع صلاحيات التعيين والترقية، إلى توظيف الحبس الاحتياطي عقوبةً مقنّعة، مرورًا بالمحاكمات الجماعية وتسييل تهم مطّاطة («نشر أخبار كاذبة»، «الانضمام»).
هذه الممارسات تُضعف ضمانات المحاكمة العادلة وتحوّل النيابة والمحاكم، في قضايا بعينها، إلى أدوات إدارة أمنية للنزاع السياسي.
 

أرقام تتكلّم: آلاف خلف القضبان
تقديرات المنظمات تتفاوت، لكنها تتفق على «حجم استثنائي» للاحتجاز على خلفية سياسية منذ 2013.
تقارير سابقة قدّرت عدد السجناء السياسيين بعشرات الآلاف، فيما أورد تقرير الخارجية الأمريكية لعام 2023 تقديرًا إجماليًا بحجم النزلاء والمحبوسين احتياطيًا يقارب 120 ألفًا (ليسوا جميعًا سياسيين لكنه يشي بحجم آلة الاحتجاز).
وفي 2025، واصلت منظمات دولية توثيق الاعتقال التعسفي، توقيف المحتجين سلفًا، وتدوير القضايا. الفارق بين الشعارات والواقع يتبدّى هنا بوضوح.
 

أحكام مسيسة وسريعة للبعض… بطيئة وقاسية لآخرين
في واقعة «نايل سيتي»، تحرّك أمني سريع، تحقيقات فورية، وكفالة تُدفع في نفس اليوم؛ بينما في ملفات الرأي والسياسة تُمدَّد الحبس الاحتياطي لمدد تتجاوز الحدّ القانوني عمليًا عبر «التدوير»، وتُدار محاكمات جماعية تُنتقد دوليًا لافتقادها المعايير الدنيا للإثبات والإجراءات.
هذا التباين لا يعني المطالبة بالتشديد في واقعة التحرّش، بل المطالبة بإنفاذ معايير واحدة: سرعة، شفافية، وضمانات دفاع، بعيدًا عن هوية المتهم أو جنسيته أو «حساسية» قضيته.
 

التحرّش… حين تصبح الرسالة مُربكة
مكافحة التحرّش تتطلب بيئة عدالة قابلة للثقة: تكييف دقيق، تفريغ فنّي شفاف للمقاطع، دعم للمبلِّغات، وأحكام رادعة حين يثبت الفعل.
لكن حين يرى الجمهور كفالات سريعة في واقعة علنية، مقابل إطالة أمد حبس أصحاب رأي بلا محاكمة عادلة، تُصبح الرسالة العامة مُربِكة وتفقد الدولة جزءًا من رأس مالها الأخلاقي في معركة يفترض أن تكون جامعة ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي.

وفي النهاية فإن «استقلال القضاء» لا يُقاس بالخُطب، بل بمحصّلة معاملات المواطنين أمامه: من فتاةٍ تقول «تعرّضت للتحرّش» فتُنصَف، إلى صحفيّ ومحامٍ وناشطٍ لا يُسحَقون تحت رحى إجراءات مطّاطة. واقعة «نايل سيتي» اختبارٌ صغير لميزانٍ مختلّ كبير: إن أردنا ثقةً في أحكام التحرّش، فلابدّ من بيئة عدالة واحدة للجميع—لا تُفرّق بين كفالةٍ سريعة لأجنبي، وبين مصري يقضي شهورًا وسنوات رهن الحبس لأنّه قال «لا».