في الوقت الذي يؤكد فيه وزير قطاع الأعمال العام، المهندس محمد شيمي، أن القطاع العام المصري "متميز، ينتج ويحقق أهدافه وليس فاشلاً"، تتسارع خطوات الحكومة في الاتجاه المعاكس تمامًا نحو بيع الشركات والأصول العامة.

 

هذا التناقض الواضح بين الخطاب الرسمي والسياسة الاقتصادية الفعلية يثير تساؤلًا منطقيًا: إذا كانت الشركات العامة اليوم ناجحة ومربحة كما يقول الوزير، فلماذا تُباع بهذه السرعة؟ وهل نحن أمام إصلاح اقتصادي حقيقي أم تصفيةٍ منهجيةٍ لأصول الدولة تحت ضغط الأزمة المالية؟

 

مفارقة الخطاب والسياسة الاقتصادية

 

تبدو تصريحات الوزير محاولة لتجميل صورة القطاع العام وإعادة الثقة في الإدارة الحكومية، لكنها في الوقت ذاته تسحب الذريعة القديمة التي طالما استخدمتها الحكومات السابقة لتبرير الخصخصة، وهي "الخسائر المزمنة والفشل الإداري".

 

فإذا كانت الشركات العامة اليوم تُحقق أرباحًا كما يقول الوزير، فإن المنطق الاقتصادي السليم يقتضي الاحتفاظ بها كمصدرٍ مستدام للإيرادات العامة، أو على الأقل طرح جزءٍ من أسهمها في البورصة دون فقدان السيطرة الوطنية عليها.

 

لكنّ الواقع العملي يُظهر عكس ذلك تمامًا. فالحكومة المصرية، تحت ضغط الحاجة إلى العملة الصعبة واستحقاقات صندوق النقد الدولي، تمضي بسرعة في تنفيذ برنامج التخارج من الأصول العامة.
وبحسب التقارير، ارتفع عدد الشركات المستهدفة في برنامج الطروحات من 35 إلى 50 شركة، مع التركيز على البيع لمستثمرين استراتيجيين أجانب وخليجيين، بدلاً من الطرح العام المحلي.
وهنا يتضح أن الهدف الحقيقي ليس "الإصلاح الهيكلي"، بل توفير سيولة عاجلة لسداد الديون وسد فجوات التمويل.

 

بيع الأصول العامة: رهان على المجهول

 

بيع الأصول المملوكة للدولة، خصوصًا الشركات المربحة أو ذات القيمة الاستراتيجية، يمثل حلًا مؤقتًا لأزمة مزمنة، لكنه يترك آثارًا طويلة المدى تهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي للدولة.

 

أولاً – فقدان السيطرة الاستراتيجية

 

مع التخارج من قطاعات مثل الطاقة، النقل، والصناعة، تفقد الدولة سيطرتها على أدوات الإنتاج الحيوية التي تمثل عماد الأمن القومي الاقتصادي. فالمستثمر الأجنبي يهدف للربح أولًا، وليس لبناء قدرة وطنية مستدامة.

 

ثانيًا – تآكل الإيرادات الدائمة

 

الشركات العامة الرابحة كانت تمثل موردًا ثابتًا للخزانة العامة. أما بيعها، فيحوّل هذا الدخل المستمر إلى صفقة لمرة واحدة، تستهلكها الدولة سريعًا دون أن تعوّضها مصادر جديدة، ما يعني أن الأجيال القادمة ستخسر عائدًا كان يمكن أن يُموّل التعليم والصحة والخدمات الأساسية.

 

ثالثًا – نشوء احتكارات جديدة

 

البيع لمستثمر واحد أو مجموعة محدودة يخلق احتكارات مغلقة ترفع الأسعار وتضعف المنافسة، وهو ما ينعكس مباشرة على المستهلك المصري.

 

ديون اليوم.. عبء الغد

 

أخطر ما في مسار الخصخصة الحالي هو أنه ينقل نتائج الفشل الاقتصادي الحالي إلى الأجيال القادمة.

 

فالدولة التي تُفرّط في أصولها لتسديد الديون لا تُصلح اقتصادها، بل ترهن مستقبله.

 

الجيل القادم سيرث معادلة قاسية؛ ديون ضخمة لم تُستثمر في إنتاج حقيقي، وأصول مبيوعة لم تعد تملكها الدولة لتدرّ دخلاً أو تُوفر وظائف.

 

بهذا الشكل، تتحول الخصخصة إلى فساد اقتصادي منظم، حيث يُباع ما بنته أجيالٌ سابقة لتغطية سوء إدارة أجيالٍ حالية.

 

بيع الحاضر.. ومصادرة المستقبل

 

إن التخارج من الشركات العامة المربحة لا يمكن تبريره اقتصاديًا إلا في ظل أزمة سيولة خانقة وغياب رؤية وطنية واضحة.

 

فالبيع في زمن الحاجة القصوى يُفقد الأصول قيمتها الحقيقية، ويضع المشتري في موقع المفاوض الأقوى.

 

كما أن التركيز على بيع الشركات ذات العائد المرتفع يعني أن الدولة تتخلى عن أدواتها الإنتاجية الأكثر كفاءة، بينما تبقي على القطاعات الأقل ربحية أو الأكثر ترهلاً، لتتكرر الدائرة ذاتها في المستقبل.

 

منطق الأجيال لا منطق الصفقات

 

تاريخيًا، بنت الدول المتقدمة ثرواتها عبر تراكم الأصول العامة وتطويرها، لا عبر بيعها.

 

الأجيال المقبلة من المصريين ستجد نفسها في بلدٍ بلا موارد منتجة مملوكة للدولة، يعتمد كليًا على الضرائب والقروض.

 

وهنا يكمن الخطر الحقيقي: تحويل الدولة من مالكٍ منتج إلى مستهلكٍ مدين، ومن شريكٍ في التنمية إلى طرفٍ يراقبها من الخارج.

 

بين نجاحٍ مُعلن وخصخصةٍ مُخيفة

 

تصريحات الوزير شيمي بأن "القطاع العام لم يعد فاشلاً" تكشف تناقضًا صارخًا في الرؤية الحكومية.

 

فإن كانت الشركات العامة قد أصبحت رابحة، فبيعها تفريطٌ في ثروات الأمة.

 

وإن كانت خاسرة، فواجب الدولة إصلاحها لا بيعها بأقل من قيمتها.

 

ما يجري اليوم ليس إصلاحًا اقتصاديًا، بل تصفية بطيئة للأصول الوطنية، تُموَّل بها أزمات الحاضر على حساب مستقبل المصريين.

 

الرهان الحقيقي يجب أن يكون على إدارة رشيدة واستثمار مستدام، لا على "صفقات سريعة" تُسجَّل في دفاتر الدين العام وتُمحى من ذاكرة الأجيال القادمة.