في وقت تنشغل فيه الحكومة المصرية ببيع أصول الدولة وتسريع برنامج الطروحات الحكومية للحصول على قروض جديدة، يتعرض آلاف العمال في القطاع الخاص لانتهاكات جسيمة لحقوقهم الأساسية، وسط غياب كامل لدور الدولة الرقابي والتشريعي.

 

آخر هذه الشواهد ما رصدته "لجنة العدالة" بشأن وقفة احتجاجية نظمها عمال الأمن في مشروع "مدينتي"، أحد مشاريع شركة الإسكندرية للإنشاءات التابعة لمجموعة طلعت مصطفى، حيث طالبوا بزيادة الرواتب، تحسين أوضاعهم المعيشية، وتثبيتهم في وظائفهم بعقود دائمة. هذه الأزمة تكشف هشاشة النظام الاقتصادي والاجتماعي، والتجاهل المتعمد من الحكومة تجاه الطبقة العاملة التي يُفترض أنها عماد التنمية.


مطالب عادلة في دولة لا تُنصف عمالها


خلال وقفتهم الاحتجاجية، رفع عمال الأمن بـ"مدينتي" عدة مطالب أساسية، تشمل:


- وقف تشغيلهم لـ12 ساعة يوميًا دون أجر إضافي


- منحهم إجازاتهم السنوية القانونية


- زيادة بدل الوجبة اليومية عن 30 جنيهًا


- رفع نسبة البونص إلى 90%


- تحويل العقود المؤقتة إلى دائمة، مع احتساب مدد الخدمة السابقة


المطالب التي قدمها العمال لا تُعد رفاهية، بل هي حقوق قانونية بديهية نص عليها قانون العمل المصري والدستور. إلا أن الواقع يكشف عن استغلال واضح وتجاوز للحقوق، دون أي تدخل من الجهات الرقابية أو وزارة القوى العاملة. أين الدولة من معاناة آلاف العمال الذين يعيشون بلا استقرار وظيفي أو تأمين اجتماعي حقيقي؟


رواتب لا تكفي الحياة... وسكن لا يصلح للعيش


أشار العمال إلى أن رواتبهم تتراوح بين 6 إلى 8 آلاف جنيه شهريًا، مع الإقامة في سكن الشركة لمدة 23 يومًا متواصلة. ورغم العمل لساعات طويلة، لا يحصلون إلا على 30 جنيهًا بدل وجبة، وهو ما لا يكفي ثمن وجبة واحدة، ما يضطرهم لإنفاق أكثر من ثلث الراتب على الطعام فقط.


في بلد تعلن فيه الحكومة كل شهر عن مشاريع قومية واستثمارات بمليارات، لا يمكن تبرير بقاء العمال في هذا الوضع المزري. بدل الوجبة اليومي الذي لا يتجاوز 30 جنيهًا، والرواتب غير العادلة، تكشف أن سياسة الدولة لا تزال منحازة لصالح رأس المال، دون أدنى اعتبار للعدالة الاجتماعية أو الإنصاف الاقتصادي.


العقود المؤقتة: لعبة لتفادي التزامات صاحب العمل


من أخطر الممارسات التي كشف عنها العمال، أن إدارة المشروع تجبرهم على توقيع عقود جديدة كل عام، مما يحرمهم من أي حقوق متراكمة كمدة خدمة أو تعويض نهاية الخدمة أو حتى التثبيت.


هذا الشكل من العقود المؤقتة الدورية هو احتيال قانوني ممنهج، والسكوت الحكومي عليه بمثابة تواطؤ. هل يُعقل أن تتحول العقود المؤقتة إلى قاعدة وظيفية في كبرى شركات القطاع الخاص، بينما تلتزم الحكومة الصمت، بل وتبيع هي نفسها أصولها لذات المستثمرين الذين يطبقون هذه السياسات؟


الحكومة غائبة... والدولة تفقد وظيفتها الاجتماعية


اللافت في هذه الأزمة هو الغياب الكامل لأي موقف رسمي من وزارة القوى العاملة، أو أي جهاز حكومي معني بالرقابة على علاقات العمل. لا تدخل لحل الأزمة، ولا تصريحات رسمية، ولا حتى إشارات لتحقيق أو مراجعة.


الدولة التي تكتفي بدور "الوسيط الاستثماري" وتفشل في حماية مواطنيها من الاستغلال، هي دولة تتخلى عن وظيفتها الأساسية. وإذا كانت الحكومة تعتبر برنامج الطروحات وبيع الأصول إنجازًا، فعليها أن توضح للشعب كيف ستضمن الحد الأدنى من الحماية للعمال في ظل هذا الانفتاح الكامل على القطاع الخاص.


من لجنة العدالة... إلى قاعة الانتظار


أصدرت "لجنة العدالة" بيانًا أكدت فيه تضامنها الكامل مع عمال الأمن، وشددت على أهمية الاستجابة لمطالبهم في أسرع وقت، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة. إلا أن هذا الدعم الحقوقي لا يكفي إذا لم يُترجم إلى تدخل حكومي مباشر وسريع.


الدعم الحقوقي، مهما كان مهمًا، يظل محدود التأثير ما لم تتحرك الدولة بمؤسساتها المعنية. فهل بات على العمال انتظار "العدالة" في بيانات المنظمات فقط، بينما تتفرج الحكومة على معاناتهم بصمت؟


هل نبيع الأصول وننسى البشر؟


بينما تسعى الدولة لجمع 2.5 مليار دولار من صندوق النقد، وتعرض حصصًا في 50 شركة حكومية، تُهدر حقوق عشرات الآلاف من العمال في مؤسسات القطاع الخاص، دون أي خطة لإصلاح سوق العمل أو تعزيز حقوق العاملين.


هذا التناقض الصارخ بين سياسات الاقتصاد الكلي والواقع الاجتماعي يُفقد الدولة توازنها. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من تحسين أوضاع العاملين، وليس من بيع المصانع والمطارات وشركات الطاقة. كيف تبني اقتصادًا قويًا على عمال مرهقين، فقراء، ومهمشين؟

 

ختاما فأزمة عمال الأمن بـ"مدينتي" ليست مجرد حادثة فردية، بل مرآة لحال سوق العمل في مصر، ولسياسات حكومية تتغاضى عن أبسط حقوق العمال في مقابل دعم رؤوس الأموال والمستثمرين. الحل لا يكمن فقط في تثبيت العقود أو زيادة الرواتب، بل في استعادة الدولة لدورها الحقيقي كحامية للعدالة الاجتماعية، ووضع الإنسان قبل الأصول في أولوياتها. فبدون كرامة العامل، لا قيمة لأي إصلاح اقتصادي، ولا مستقبل لأي دولة.