أثار تصريح قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو، المعروف بـ«حميدتي»، بشأن إمكانية استهداف مصر بصواريخ باليستية، عاصفة من الجدل السياسي والعسكري في المنطقة. فالتصريح الذي جاء وسط اشتعال الحرب الداخلية السودانية، يُعدّ أول تهديد مباشر لدولة جارة بحجم مصر، التي لطالما اعتُبرت ضامنة لاستقرار السودان.
هذا التصريح، الذي تزامن مع تصاعد خسائر قوات الدعم السريع ميدانيًا، فُسّر في دوائر عربية ودولية على أنه انعكاس لأزمة داخلية وتعبير عن محاولة تصدير الصراع للخارج. ويستعرض هذا التقرير دلالات التهديد وأبعاده الإقليمية، من خلال تحليلات خمسة خبراء في الشأنين السوداني والمصري.
مضمون التهديد وتحول الخطاب العسكري
لم يعلن حميدتي امتلاكه فعليًا صواريخ باليستية، لكن استخدامه لهذا المصطلح تحديدًا يشير إلى تصعيد رمزي خطير، إذ يمثل نقلة من الخطاب السياسي إلى لغة الردع العسكري.
التهديد لمصر جاء بعد سلسلة خسائر ميدانية لقوات الدعم السريع في جنوب الخرطوم، ما جعله يستخدم لغة القوة في محاولة لإظهار أنه لا يزال لاعبًا قادرًا على التأثير. كما يعكس أيضًا رغبة في استثمار العداء المفترض مع القاهرة لتحشيد أنصاره في الداخل.
يرى الدكتور سليمان البلدو، مدير منظمة «مشروع الانتقال السوداني»، أن خطاب حميدتي “يفتقر إلى أي بعد تفاوضي ويغلب عليه الطابع التعبوي العسكري”، مشيرًا إلى أن التهديد “يُستخدم كأداة داخلية لرفع المعنويات وليس كموقف استراتيجي حقيقي”.
ويضيف البلدو أن “استخدام لغة الصواريخ هو مؤشر على اضطراب الخطاب السياسي لقائد الدعم السريع، ومحاولة لخلق عدو خارجي يبرر استمرار القتال”.
الاتهامات المتبادلة وتأثيرها على العلاقات المصرية-السودانية
تتهم قوات الدعم السريع مصر بتقديم دعم عسكري غير مباشر للجيش السوداني، عبر تسهيلات لوجستية أو تبادل استخباراتي. في المقابل، تنفي القاهرة هذه المزاعم وتؤكد أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع. لكن تهديد حميدتي يعكس تآكل الثقة تمامًا بين الجانبين، ويدفع بالعلاقات التاريخية إلى أسوأ مراحلها منذ عقود.
التهديد، من منظور مصري، لا يُقرأ كخطر عسكري بقدر ما يُقرأ كتهديد رمزي يمس الأمن القومي ويستوجب مراقبة تحركات الدعم السريع وحدوده.
ومن جهته يوضح المحلل السياسي المصري عمرو إمام أن “التهديد لا يحمل أي بعد عملياتي، بل يُستخدم لتغطية فشل ميداني واضح”. ويضيف في تحليله لمجلة المجلة أن “حميدتي يحمّل مصر مسؤولية دعمه للجيش السوداني، في حين أن القاهرة تحاول تجنب الانحياز المعلن”.
ويتابع إمام: “اللجوء إلى لغة التهديد الباليستي يعكس اعترافًا ضمنيًا بالهزيمة على الأرض”.
البعد الإقليمي ودور القوى الخارجية
يتجاوز تهديد حميدتي الإطار الثنائي مع مصر ليحمل رسائل إقليمية أبعد، موجهة نحو الإمارات وإثيوبيا وإسرائيل. فالقوى الداعمة لبعض الفصائل في السودان تُتهم بمحاولة إعادة رسم خريطة النفوذ في القرن الإفريقي.
التهديد بالصواريخ – حتى لو لم يكن واقعيًا – يثير قلق دول المنطقة من احتمال تحوّل السودان إلى منصة صراعات إقليمية جديدة.
ترى الباحثة والصحفية المتخصصة في شؤون الأمن الإقليمي إيمان كمال أن “لغة حميدتي تُظهر احتمال وجود دعم خارجي غير مباشر، خصوصًا من أطراف تسعى لاستخدام السودان كورقة ضغط على القاهرة”.
وتوضح أن “التصعيد الكلامي موجّه بقدر كبير إلى أطراف خارجية تموّل الصراع، أكثر مما هو موجّه لمصر ذاتها”.
القدرات العسكرية الفعلية لقوات الدعم السريع
يُجمع الخبراء على أن قوات الدعم السريع لا تملك صواريخ باليستية حقيقية أو أنظمة إطلاق متقدمة، ما يجعل التهديد أقرب إلى حرب نفسية. فامتلاك مثل هذه الأسلحة يتطلب بنى تحتية معقدة وشبكات تمويل وتسليح لا تتوافر لفصيل شبه عسكري.
كما أن الجيش السوداني نفسه يعتمد على قدرات محدودة في هذا المجال، ما يعني أن التهديد لم يكن سوى رسالة رمزية في إطار الحرب الإعلامية.
يقول اللواء المتقاعد عبد الحكيم الولي، وهو محلل عسكري مصري، إن “التهديد الباليستي من قوات الدعم السريع لا يُعدّ ذا مصداقية من الناحية الفنية”.
ويضيف أن “إطلاق مثل هذه الصواريخ يحتاج تجهيزات رادارية ومراكز تحكم متطورة، وهي غير متاحة في السودان حاليًا”. لكنه حذر من أن “مجرد تداول فكرة استهداف مصر يُحتّم على القاهرة تعزيز قدراتها الدفاعية واستباق أي تهديد محتمل”.
الانعكاسات المستقبلية على أمن المنطقة
إن تهديد حميدتي يمثل تحوّلًا خطيرًا في طبيعة الصراع السوداني، إذ يخرجه من حدوده الداخلية إلى مستوى الصراعات الإقليمية. كما يفرض على القاهرة مراجعة استراتيجيتها تجاه الخرطوم، خاصة بعد تآكل الدور المصري التقليدي كوسيط في النزاعات السودانية.
وإذا لم تُضبط الأمور سياسيًا، فقد يتحول السودان إلى بؤرة جديدة تهدد أمن وادي النيل برمّته.
يؤكد الباحث السوداني ماجدي عبد العزيز أن “التهديد بالصواريخ محاولة يائسة لإعادة التوازن النفسي لقوات الدعم السريع”، مضيفًا أن “حميدتي يحاول الإيحاء بامتلاكه قدرات استراتيجية، بينما هو يعاني من انحسار السيطرة الميدانية”.
ويرى عبد العزيز أن “القاهرة تدرك أن الخطر الحقيقي ليس في الصواريخ، بل في الفوضى التي قد تتسلل من السودان إلى حدودها الجنوبية”.
يُظهر تحليل الخبراء أن تهديد حميدتي لمصر بالصواريخ الباليستية يحمل أكثر من وجه: فهو في جوهره خطاب نفسي وسياسي يهدف إلى إثبات الحضور بعد الهزائم الميدانية، لكنه في الوقت نفسه يُعبّر عن واقع خطير يتمثل في فقدان السيطرة داخل السودان، وتحول الفصائل المسلحة إلى أدوات تهديد عابرة للحدود.

