يشهد المشهد السياسي في الشرق الأوسط حراكاً مكثفاً خلال الأيام الأخيرة مع تصاعد التوتر الميداني في غزة واجتماعات دبلوماسية متعددة في إسرائيل ومصر. ففي الوقت الذي التقى فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المبعوثين الأميركيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر لبحث “التحديات والفرص” في المنطقة، كانت حركة حماس تعقد مباحثات جادة في القاهرة لتهيئة الأرضية لحوار فلسطيني شامل برعاية مصرية.
هذا التزامن لم يكن صدفة، بل يعكس اختلافاً جوهرياً في الرؤى: بين محاولة إسرائيلية لتثبيت واقع ما بعد الحرب بالقوة، وسعي فلسطيني بقيادة حماس لبناء مستقبل وطني مشترك يستند إلى الوحدة والمبادرة السياسية.
نتانياهو والأزمة الإسرائيلية الداخلية
تأتي لقاءات نتانياهو مع المبعوثين الأميركيين في سياق سياسي داخلي مضطرب. فتصريحاته أمام الكنيست حول “إلقاء 153 طناً من القنابل على غزة” يفضح حجم الرد العسكري الإسرائيلي ويضعه في مواجهة انتقادات داخلية ودولية واسعة. كما أن تأكيده على لقاء قادم مع نائب الرئيس الأميركي جيه.دي فانس يظهر عمق اعتماد حكومته على الغطاء الأميركي في وقت تتزايد فيه عزلة إسرائيل الدبلوماسية بعد تصاعد أعداد الضحايا المدنيين في غزة.
إعادة فتح معبر كرم أبو سالم بعد يوم من إغلاقه المؤقت كانت محاولة إسرائيلية لتخفيف الضغوط الدولية، خاصة بعد تأكيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار. ومع ذلك، فإن التحركات الإسرائيلية تبدو رد فعل أكثر منها مبادرة سياسية، في حين تظهر خطوات حماس في القاهرة روح المسؤولية والبحث عن حلول.
في المقابل، تستقبل القاهرة وفداً من حركة حماس لعقد مشاورات موسعة حول “الحوار الفلسطيني – الفلسطيني” وفق ما نقلته مصادر ميدانية. هذه المشاورات تركز على توحيد الصف الوطني ومناقشة مستقبل غزة بعد الحرب، بما في ذلك تشكيل لجنة كفاءات مستقلة لإدارة القطاع.
موقف المقاومة
الوفد الحمساوي، بحسب التقارير، أبدى استعداداً واضحاً لتمكين اللجنة المستقلة وإعطاء الأولوية لمفهوم الشراكة الوطنية، وهو ما يؤكد نضجاً سياسياً ملحوظاً في سلوك الحركة التي جمعت بين المقاومة الميدانية والانفتاح السياسي على مسارات تسوية داخلية. فبدلاً من الاكتفاء بالموقع المقاوم، تبني حماس اليوم رؤية لإدارة سياسية متوازنة قادرة على استيعاب التحديات الميدانية والإقليمية معاً.
يمثل قرار حماس التعاون مع الجهود المصرية للحوار الفلسطيني خطوة استراتيجية باتجاه إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس جديدة. فالحركة لا تطرح نفسها بديلاً للشرعيات القائمة، بل كقوة موازية تدعو لإشراك الكفاءات الوطنية بعيداً عن الانقسامات الفصائلية.
وقد أكد هذا التوجه في تصريحات لمصادر قريبة من الوفد الحمساوي بأن الحركة ستعمل على “تمكين لجنة الكفاءات المستقلة” التي ستدير قطاع غزة في المرحلة الانتقالية. هذا الموقف يشير إلى إدراك واقعي لمتطلبات الاستقرار وضرورة انتقال المقاومة من حالة الصدام العسكري المفتوح إلى إدارة سياسية راشدة ضمن رؤية تحفظ الثوابت وتفتح آفاق التنسيق الوطني.
كما أن إعلان كتائب القسام عن استعدادها لتسليم جثمان أحد الرهائن الإسرائيليين يمثل إشارة إنسانية ذات بعد سياسي، تهدف إلى تثبيت صورة الحركة كطرف مسؤول يحترم التفاهمات رغم استمرار العدوان العسكري الإسرائيلي.
التوازن بين القوة والسياسة
من الواضح أن السياسة الحمساوية تسعى اليوم إلى إعادة تعريف “الانتصار” لا باعتباره فقط قدرة على الصمود العسكري، بل كنجاح في فرض الاعتراف بالدور الفلسطيني في رسم مستقبل غزة. فبينما يواصل نتانياهو حديثه عن “الفرص في المنطقة” بمعزل عن الفلسطينيين، تتحرك حماس بخطى دبلوماسية محسوبة تراعي حساسية الوضع الإقليمي وتستثمر الدعم المصري لتوسيع قاعدة المشاركة الفلسطينية.
لا شك أن هذا التحول يضع حماس في موقع جديد داخل المعادلة الإقليمية، كقوة سياسية مؤثرة تتعامل مع الوساطات بمرونة دون التفريط في مبادئها، وتجمع بين المقاومة الميدانية والانفتاح السياسي.
ختاما فإن مشهد اليوم يضع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أمام اختبار حقيقي. فبينما تراهن إسرائيل على التفوق العسكري لضمان أمنها، تراهن حماس على براغماتية الحوار لتثبيت حقوق الشعب الفلسطيني وصون وحدته. الجهود التي تبذلها الحركة في القاهرة تظهر وجهاً جديداً للمقاومة الفلسطينية، وجهاً يؤمن بأن الصمود لا ينفصل عن العمل السياسي، وأن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على تحويل الدم إلى مشروع وطني جامع.
بهذا المنظور، تمثل تحركات حماس في هذه المرحلة نقطة تحول مهمة في الوعي السياسي الفلسطيني، ولبنة أساسية في بناء مستقبل أكثر تماسكاً وعدلاً في غزة وفلسطين كلها.