في قاعة فخمة بمدينة شرم الشيخ، حيث انعقدت القمة الدولية التي أرادها عبد الفتاح السيسي منصة لإعادة تلميع صورته كـ“زعيم وسطي” و“وسيط متزن”، تحوّلت كاميرات البث إلى ناقل غير مقصود لاهتزاز الهيبة المصرية.

لم يكن الحدث في الخطاب نفسه، بل في مشهد جانبي بسيط: دبلوماسيون يرفضون أجهزة الترجمة أثناء حديث السيسي، في لقطة انتشرت على نطاق واسع وأصبحت رمزاً لتراجع “الصورة المزيفة” للنظام، وانكشاف المسافة بين خطاب لا معنى له وواقع مرير يعلمه الجميع عن أفاق يرقص في كل الموائد.

المشهد الذي بدا عارضاً في ظاهره، حمل في جوهره رسالة سياسية ودبلوماسية عميقة.
فحين يرفض بعض الحضور الاستماع للترجمة خلال كلمة المضيف، فإن ذلك لا يُقرأ بروتوكولياً فحسب، بل يُفهم كتعبير عن فتور الثقة وفتور المكانة.

الصورة في زمن القمم المتلفزة تُوازي البيان السياسي، بل قد تتفوق عليه.
وهنا، بدت لغة الجسد أبلغ من كل الشعارات التي حاول النظام تسويقها حول “الدور المصري المحوري” و“الوساطة المسؤولة”.

 

اختار السيسي منبر القمة لتثبيت روايته عن “حل الدولتين” واستعادة دور القاهرة في معادلات غزة، مقدماً نفسه كضامن للاستقرار وممر إلزامي لأي تسوية إقليمية. غير أن الخطاب بدا باهتاً، وافتقد إلى الصدى الذي كان النظام يطمح إليه.
فالمضمون السياسي لم ينجُ من التناقض بين الخطاب الهادئ في الخارج والسياسات الصلبة في الداخل، وبين دعوات السلام الإقليمي وممارسات القمع المحلي التي تخنق كل تعبير حر أو مساحة حوار.

تحليلات غربية عدة، بينها ما كتبه الباحث الأمريكي روبرت سبرينغبورغ، ترى أن مأزق النظام المصري لا يتعلق بالصورة فقط، بل بالبنية التي تستند إليها هذه الصورة.
فاقتصاد تحكمه المؤسسة العسكرية، ومجتمع يزداد انقساماً بين أقلية ثرية وأغلبية مسحوقة، ودعم خارجي قائم على “الخوف من انهيار مصر” لا على الثقة في إصلاحاتها—كلها عناصر تجعل شرعية النظام هشة ومؤقتة، تنهار عند أول اختبار رمزي كالمشهد المتداول في شرم الشيخ.

في الداخل، لم ينجُ السيسي من الانتقادات المتصاعدة إزاء موقفه من حرب غزة.
فبينما يروّج النظام لدوره كضامن إنساني، تتوالى الاتهامات بالتباطؤ في إدخال المساعدات وبالرضوخ لحسابات دولية على حساب الموقف الشعبي.

هذا التناقض بين “صورة الوسيط” وواقع الأداء العملي جعل من القمة فرصة مهدورة لتثبيت النفوذ المصري، لا لتعزيزه.
فحين تتسرب مفارقات الخطاب إلى داخل القاعة، يصبح من الصعب على أي “هندسة إعلامية” أن تخفي التآكل العميق في الثقة.

أما على المستوى الاقتصادي، فخطابات الوعود المعتادة عن “خفض التضخم” و“مرونة سعر الصرف” و“جذب الاستثمارات” لم تعد تقنع الشارع أو المراقبين.
فالأزمة المعيشية تتفاقم، والدين العام يتضخم، ومؤشرات السوق تشير إلى انكماش الإنتاج لحساب توسع الكيانات التابعة للدولة والجيش.

في ظل هذا المشهد، تغدو أي لقطة رمزية كرفض الترجمة أكثر من حادث بروتوكولي: إنها مرآة لرفض أوسع، محلي ودولي، لخطاب رسمي يبتعد كل يوم عن الواقع.

الدلالة الأهم أن “رأس المال الرمزي” للدولة لا يُبنى بالبيانات ولا بالمؤتمرات، بل بثلاثة عناصر مترابطة: كفاءة داخلية، واعتمادية خارجية، وصورة متماسكة.
قمة شرم الشيخ كشفت خللاً في هذه العناصر الثلاثة معاً؛ كفاءة مهزوزة بفعل الغلاء والاحتقان، واعتمادية مشروطة من الحلفاء تقوم على منع الانهيار لا على الشراكة، وصورة إعلامية تتهشم كلما تسربت التفاصيل الصغيرة التي تفضح ما يراد إخفاؤه.

إن رفض بعض الحضور استخدام سماعات الترجمة خلال كلمة السيسي لم يكن سوى رسالة ضمنية: العالم لم يعد بحاجة إلى وساطة خطابية من نظام يفتقد القدرة على الإقناع.
إنها لحظة رمزية تلخص مأزق السلطة المصرية الحالية—سلطة تراهن على الصورة بينما تتآكل القاعدة التي تسندها، وتظن أن الأضواء الدولية قادرة على إخفاء ظلال أزمة داخلية عميقة لا يمكن تجميلها بخطابات ولا بقِمم.