في مشهد يلخص عمق الأزمة الاقتصادية وتآكل ثقة المصريين في عملتهم الوطنية، واصلت أسعار الذهب في مصر ارتفاعها الجنوني، مسجلة مستويات غير مسبوقة في تعاملات الأربعاء، 15 أكتوبر 2025.
فقد بلغ سعر جرام الذهب عيار 21، الأكثر تداولًا بين المصريين، ما بين 5530 و5560 جنيهًا، في قفزة تعكس فشل الحكومة في كبح جماح التضخم أو وقف الانهيار المستمر للجنيه أمام الدولار.
هذا الارتفاع لم يعد مجرد مؤشر مالي، بل تحوّل إلى استفتاء شعبي صامت على السياسات الاقتصادية الرسمية، حيث يلجأ المواطنون إلى الذهب كملاذ أخير لحماية مدخراتهم من التآكل في مواجهة الغلاء وفقدان الثقة في العملة المحلية.
أسعار الذهب: مرآة لأزمة أعمق
لم يقتصر الارتفاع على العيار الأكثر شعبية، بل شمل مختلف الأعيرة الذهبية. فقد سجل جرام الذهب عيار 24، الأعلى نقاءً، بين 6327 و6354 جنيهًا، وبلغ عيار 18 نحو 4765 جنيهًا. أما الجنيه الذهب فقد قفز إلى حوالي 44,480 جنيهًا، وهو رقم يعكس حجم الإقبال الشعبي على المعدن النفيس كملاذ آمن بعد أن فقد الجنيه قيمته الحقيقية.
ويربط خبراء الاقتصاد هذا الصعود المذهل بالعوامل العالمية والمحلية معًا، حيث تقترب أونصة الذهب في الأسواق الدولية من حاجز 4200 دولار، مسجلة تداولات بين 4131 و4141 دولارًا. غير أن مصر، بخلاف معظم الاقتصادات الأخرى، تدفع الثمن مضاعفًا بسبب تراجع عملتها المحلية أمام الدولار، ما يجعل كل زيادة عالمية في سعر الأونصة عبئًا إضافيًا على المواطن.
الدولار المستقر والجنيه الميت سريريًا
ورغم حديث الحكومة عن "استقرار نسبي" في سعر الصرف، إلا أن الأرقام تكشف واقعًا مغايرًا. فقد استقر الدولار اليوم عند 47.64 جنيهًا للشراء و47.78 جنيهًا للبيع في البنك المركزي، وفي البنوك الكبرى مثل الأهلي ومصر عند 47.66 جنيهًا للشراء و47.76 جنيهًا للبيع.
هذا "الاستقرار"، كما يصفه الخبراء، لا يعكس قوة الجنيه، بل تجميدًا مؤقتًا للخسارة عند مستوى جديد من التراجع.
فالعملة التي فقدت أكثر من ثلثي قيمتها خلال خمس سنوات لم تعد تعني للمواطن شيئًا سوى أنها وسيلة اضطرارية للمعاملات اليومية، بينما تُكتنز المدخرات على شكل ذهب أو دولار بعيدًا عن قبضة النظام المصرفي.
ارتباط الذهب المباشر بسعر الدولار يجعل من كل ارتفاع في العملة الأمريكية مسمارًا جديدًا في نعش القوة الشرائية للجنيه.
ومع استمرار العجز التجاري وتآكل الاحتياطي النقدي، تتآكل وعود الحكومة بالتحسن الاقتصادي، فيما تتعمق الفجوة بين التصريحات الرسمية والواقع الذي يعيشه المواطن في الأسواق.
الفجوة بين خطاب الحكومة وجيوب المواطنين
المفارقة أن هذه القفزات في أسعار الذهب تأتي بالتزامن مع تقارير متفائلة صادرة عن صندوق النقد الدولي، الذي رفع توقعاته لنمو الاقتصاد المصري إلى 4.3% في العام المالي الحالي.
غير أن هذه الأرقام، كما يصفها الخبراء، "نمو على الورق" لا ينعكس على حياة الناس.
فبينما تتحدث الحكومة عن مؤشرات التحسن وارتفاع الاحتياطي النقدي وعودة الاستثمارات، يعيش المواطن المصري واقعًا مختلفًا تمامًا: ارتفاع أسعار الغذاء والدواء والإيجارات، وتآكل الرواتب والمدخرات، وانعدام الأمل في أي انفراجة قريبة.
في الأحياء الفقيرة، صار السؤال اليومي للمواطن البسيط: "هل أشتري جرام ذهب أم أحتفظ بالجنيه الذي يفقد قيمته كل صباح؟"
الإجابة تظهر في حركة السوق؛ فمحال الصاغة تشهد إقبالًا غير مسبوق على شراء الذهب رغم ارتفاع أسعاره، بينما تتراجع الودائع بالجنيه، ما يعكس حالة هروب جماعي من العملة الوطنية نحو كل ما يمكن أن يحتفظ بالقيمة، سواء كان ذهبًا أو دولارًا أو حتى عقارًا.
الذهب.. تصويت صامت ضد السياسات الاقتصادية
يرى محللون أن صعود الذهب بهذا الشكل ليس مجرد نتيجة لظروف عالمية أو مضاربات محلية، بل هو مؤشر على انهيار الثقة في الإدارة الاقتصادية نفسها.
فكل غرام ذهب جديد يُشترى اليوم هو صوت احتجاج صامت ضد حكومة فشلت في ضبط السوق، وواصلت الاقتراض ورفع الضرائب دون حلول إنتاجية حقيقية.
إن موجة الارتفاع الحالية لا تعكس فقط أزمة في الأسعار، بل أزمة في الثقة — الثقة في الجنيه، في الحكومة، وفي الوعود التي تتكرر منذ سنوات عن "الاستقرار القادم".
وبينما يزداد بريق الذهب في عيون المصريين كرمز للأمان، يتلاشى بريق العملة الوطنية التي تحولت في نظر كثيرين إلى ورق بلا قيمة حقيقية.
وفي النهاية، يختصر مشهد اليوم مفارقة مؤلمة: بينما تعلن الحكومة عن "العبور من عنق الزجاجة"، يواصل المصريون الهروب إلى الذهب كملاذ أخير من سياسات اقتصادية لم تترك لهم سوى الخوف... والذهب.