بينما تتغنّى الحكومة المصرية بالأرقام الضخمة التي تسجلها المبادرة الرئاسية لإنهاء قوائم الانتظار، يعيش آلاف المرضى في واقع مختلف تمامًا — واقع من الانتظار الطويل، والتعقيدات البيروقراطية، والإهمال الإداري الذي يحوّل رحلة العلاج إلى كابوس مفتوح على احتمالات الموت.

ففي الوقت الذي تصدر فيه البيانات الرسمية لتؤكد “نجاح المبادرة” و”تحقيق العدالة الصحية”، تتكدس أقسام الطوارئ والعيادات الخارجية في المستشفيات الحكومية بالمرضى الذين لم يجدوا طريقهم إلى تلك القوائم الموعودة أصلًا.
 

إنجازات رقمية... ومعاناة بشرية
تقول وزارة الصحة والسكان إنها أجرت نحو 2.9 مليون عملية جراحية ضمن المبادرة منذ إطلاقها في يوليو 2018 وحتى سبتمبر 2025، وتشمل هذه العمليات تدخلات كبرى في مجالات القلب والأورام وزراعة الأعضاء.
لكن خلف هذه الأرقام المليونية تختبئ مأساة لا تتحدث عنها البيانات الرسمية: ملايين المرضى الذين لم تصل إليهم المبادرة، أو أولئك الذين ينتظرون لأشهر طويلة حتى يُسمح لهم بالدخول في “قائمة الانتظار الرسمية”.

فالطريق إلى العملية الجراحية لا يبدأ داخل غرفة العمليات، بل يمر عبر مراحل مرهقة من التسجيل، والكشف، والفحوصات، والمراجعات — وهي المراحل التي تنهك المريض نفسيًا وجسديًا وتستهلك شهورًا، إن لم تكن سنوات.
 

التحول الرقمي.. من وعد بالتسهيل إلى عبء جديد
تسوّق الحكومة لما تسميه “نقلة رقمية” في الخدمات الصحية، لكن على الأرض تحولت هذه الأنظمة الإلكترونية إلى عائق حقيقي أمام المواطنين، خصوصًا كبار السن والفئات الأقل تعليمًا.

فمن أجل التسجيل في مبادرة إنهاء قوائم الانتظار، يُطلب من المريض الدخول على موقع إلكتروني معقد، وإنشاء حساب شخصي، ورفع مستندات وفحوصات، وتحديث بيانات بطرق لا يقدر عليها كثيرون.
وحتى من يتمكن من التسجيل، يواجه شبح تعطّل النظام الإلكتروني أو امتلاء المواعيد لشهور تالية، دون وجود بدائل أو مكاتب دعم حقيقية داخل المستشفيات. أما من يذهب بنفسه إلى المستشفى بحثًا عن حل، فيُقابل بعبارة واحدة: “سجل إلكترونيًا أولًا”.

بهذا الشكل، تحولت الرقمنة من وسيلة لتقريب الخدمة إلى أداة إقصاء تُغلق الباب أمام الفقراء والأميين الذين لا يملكون أدوات التعامل مع البيروقراطية الرقمية الجديدة.
 

قوائم انتظار معلنة... وأخرى خفية
الحديث عن “إنهاء قوائم الانتظار” يبدو في جزء منه إخفاءً لطبقات أعمق من الأزمة. فقبل الوصول إلى القائمة الرسمية التي تتفاخر بها الوزارة، يمر المريض بثلاث قوائم انتظار أخرى لا تظهر في البيانات:

  • انتظار الكشف الأولي: قد يمتد لأسابيع أو أشهر قبل الحصول على موعد في العيادات الخارجية.
  • انتظار الفحوصات: بعد الكشف، تبدأ رحلة جديدة للحصول على أشعة أو تحاليل نادرة الوجود أو بطيئة التنفيذ.
  • انتظار القرار: بعد انتهاء الفحوصات، ينتظر المريض مجددًا لتحديد موعد العملية، وغالبًا دون وضوح في ترتيب الأولويات أو الشفافية في الجدولة.

خلال هذه الفترة، تتدهور حالة آلاف المرضى. أورام حميدة تتحول إلى خبيثة، وأمراض قلب بسيطة تتفاقم إلى أزمات قاتلة، وأطفال يُحرمون من فرص العلاج في الوقت المناسب.
إنها مأساة تُدار ببطء مميت، لا يوقفها بيان رسمي ولا زيارة وزارية.
 

جذور الأزمة.. فشل هيكلي لا يغطيه الإعلام
يرى خبراء الصحة العامة أن أزمة قوائم الانتظار ليست طارئة، بل نتيجة عقود من الإهمال الهيكلي في القطاع الصحي. فميزانية الصحة، التي لا تتجاوز 1.5% من الناتج المحلي، لا تكفي لتشغيل مستشفى واحد بمعايير عالمية.
إلى جانب ذلك، يتركز أكثر من 70% من الخدمات الطبية عالية التخصص في القاهرة والجيزة، بينما تُترك المحافظات الأخرى — ومنها الصعيد وسيناء والدلتا — لتواجه مصيرها مع مستشفيات متهالكة ومعدات عفا عليها الزمن.

أما نظام الرعاية الأولية، المفترض أن يكتشف الأمراض مبكرًا، فقد انهار فعليًا، تاركًا المستشفيات الكبرى غارقة في سيل من الحالات المتأخرة التي كان يمكن علاجها بجهود بسيطة في مراحلها الأولى.
 

بين الدعاية والواقع
تواصل الحكومة المصرية تقديم المبادرات الصحية كقصص نجاح “رئاسية” تُعرض في نشرات الأخبار والبرامج الرسمية، لكنها تتجنب الحديث عن جوهر المشكلة: غياب إصلاح حقيقي للنظام الصحي العام.

إن القضاء على قوائم الانتظار لا يتم عبر حملات دعائية مؤقتة، بل عبر بناء نظام رعاية متكامل يضمن العلاج في كل مراحله — من الكشف إلى العملية، ومن الوقاية إلى المتابعة.
وحتى يتحقق ذلك، سيظل المريض المصري يدفع الثمن من صحته وكرامته، بينما تستمر الحكومة في تزيين الإخفاقات بعبارات “التحول الرقمي” و“الرؤية المستقبلية”.
 

وأخيرا فإن الإصلاح يبدأ من الاعتراف بالفشل
المبادرات الرئاسية قد تخفف المعاناة مؤقتًا، لكنها لا تُنهيها.
فالمشكلة ليست في طول الطوابير فحسب، بل في النظام الذي ينتجها.

طالما بقيت الصحة بندًا ثانويًا في سياسات الدولة، وطالما ظل العلاج امتيازًا لا حقًا، ستبقى قوائم الانتظار مفتوحة، وستبقى حياة المصريين مؤجلة إلى إشعارٍ آخر.