كشفت دراسة تحليلية حديثة صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية أن الخبرة العملية باتت العنصر الأهم في الحصول على وظيفة داخل مصر، متجاوزة في قيمتها الشهادات الجامعية، فيما تتركز 83% من فرص العمل المتاحة في القاهرة والمناطق المحيطة بها، في دلالة واضحة على الخلل الجغرافي في توزيع فرص التوظيف داخل البلاد.
القاهرة تبتلع الوظائف.. و"الخبرة أولاً"
أوضحت الدراسة، التي رصدت حركة سوق العمل خلال الربع الثالث من عام 2025، أن الفرص أمام حديثي التخرج تراجعت بشكل ملحوظ، مقابل ارتفاع الطلب على ذوي الخبرة العملية، لا سيما في قطاعات المبيعات والتسويق وتكنولوجيا المعلومات والعقارات.
كما أظهرت البيانات أن أصحاب التعليم المتوسط ما زالوا يحظون بفرص واسعة في المهن الحرفية، في حين بقيت الوظائف العليا حكرًا على حاملي الشهادات الجامعية بنسبة تصل إلى 98% من إجمالي المتقدمين لها.
ويشير التقرير إلى أن القطاع التجاري والتسويقي شهد زيادة في الطلب على الوظائف الحرفية والميدانية، بينما تراجع قطاع السياحة والضيافة بنحو النصف، خاصة في مجالات الاستقبال والإدارة الفندقية. أما في الوظائف المكتبية (الياقات البيضاء)، فاستقر الطلب في مجالات التسويق والإعلان وتكنولوجيا المعلومات، حيث تتركز أكثر من نصف فرص التسويق في البيع والتجزئة، بينما توزعت وظائف تكنولوجيا المعلومات بين خدمة العملاء وتطوير البرمجيات.
ويحذر المركز من أن التمركز المفرط للوظائف في القاهرة يدفع آلاف الباحثين عن العمل من مختلف المحافظات إلى الهجرة الداخلية نحو العاصمة، ما يؤدي إلى نمو العشوائيات وتفاقم الضغط على المرافق والخدمات الأساسية.
الذكاء الاصطناعي يعيد رسم الخريطة
في محور آخر من الدراسة، تناول الباحثون تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل المصري، محذرين من أن التقنيات الجديدة تعيد صياغة طبيعة الوظائف بدلًا من إلغائها بالكامل.
وأظهرت نتائج التحليل أن هناك أربع مهن رئيسية مهددة جزئياً بالأتمتة تشمل: المحاسبة، الصحافة والإعلام، الدعم الفني، والسياحة.
ففي مهنة المحاسبة، 58% من المهام قابلة للأتمتة، مثل التسجيل والمراجعة الدورية وإعداد التقارير، بينما تبقى المهام الاستشارية أقل تأثرًا.
أما الصحافة والإعلام، فكانت الأكثر عرضة للتغيير، إذ يمكن أتمتة نحو 72% من مهامها، خصوصًا التحرير والترجمة، في حين تبقى المهام الميدانية مثل المقابلات والتحقق من المصادر في مأمن نسبي.
وفي الدعم الفني، تصل النسبة إلى 51% من المهام القابلة للأتمتة، وخاصة في مراكز الاتصالات (الكول سنتر)، فيما تبلغ النسبة في السياحة نحو 56%، حيث يمكن أتمتة خدمات الحجز والتخطيط، لكن التواصل الإنساني والخبرة الميدانية ما زالا محور العمل السياحي.
وأكد التقرير أن الذكاء الاصطناعي لا يلغي دور الإنسان، بل يغيّر شكل العمل ويمنح أصحاب المهارات المزدوجة — التقنية والإنسانية — فرصة أفضل للبقاء.
مخاوف وتحذيرات من فقدان الوظائف
من جانبها، حذرت الدكتورة مها عبد الناصر من تراجع دور شباب الخريجين الذين يعملون حاليًا بأعداد كبيرة في مراكز الاتصالات، موضحة أن هذه الوظائف تواجه خطر الاندثار بسبب الاعتماد المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وقالت إن التحول الرقمي قد يسبب أزمة بطالة واسعة إذا لم يُوجَّه الشباب إلى اكتساب مهارات جديدة تتماشى مع المرحلة المقبلة، مشيرة إلى أن فرص العمل البسيطة في طريقها إلى الانحسار لصالح الوظائف الإشرافية والتحليلية.
وأضافت عبد الناصر أن المهارات الإنسانية مثل التواصل، وإدارة الأزمات، وحل المشكلات، ستظل مطلوبة لأنها لا يمكن استبدالها بالآلات. لكنها حذّرت في الوقت ذاته من تحيزات الذكاء الاصطناعي العالمية التي تعتمد على بيانات بعيدة عن طبيعة المجتمعات العربية، داعية إلى تطوير نماذج ذكاء محلية تعكس الواقع المصري والعربي لضمان العدالة في مخرجات التكنولوجيا الجديدة.
تحولات جذرية في مهن السياحة والمحاسبة
بدوره، قال ماجد عز الدين، الشريك الإقليمي الأول في مكتب "برايس ووترهاوس كوبرز"، إن مهنة المحاسبة لن تختفي لكنها ستتغير جذرياً، مشيرًا إلى أن دخول أدوات التكنولوجيا منذ التسعينيات جعل المحاسب أكثر إنتاجية ودقة.
وأضاف أن الوظائف المبتدئة قد تتأثر، لكن في المقابل ستظهر تخصصات جديدة مثل استشاري التحول الرقمي، محلل البيانات، خبير إدارة المخاطر الرقمية، وخبير الذكاء الاصطناعي.
أما فؤاد نبيل، نائب رئيس شركة "إيمكو ترافل"، فأكد أن الذكاء الاصطناعي غيّر شكل الوظائف السياحية على مستوى العالم، مشيرًا إلى أن شركات كبرى مثل Expedia خفضت عدد موظفيها من 39 ألفًا إلى نحو 3500 فقط خلال خمس سنوات نتيجة الاعتماد المتزايد على الأتمتة، لكنه يرى أن التحول الرقمي يمثل فرصة تاريخية لمصر لاستعادة مكانتها في سوق السياحة العالمي من خلال دمج التكنولوجيا بالتجربة الإنسانية.
دعوة لإصلاح التعليم وإعادة تأهيل الكفاءات
وأكدت الدكتورة عبلة عبد اللطيف، المدير التنفيذي ومدير البحوث بالمركز المصري للدراسات الاقتصادية، أن مصر بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة منظومة التعليم والتدريب لتتماشى مع التحولات المتسارعة في سوق العمل.
وأوضحت أن هناك فجوة عميقة بين مخرجات التعليم واحتياجات الشركات، حيث يدخل الكثير من الطلاب تخصصات لا توفر فرص توظيف حقيقية، في الوقت الذي تبحث فيه المؤسسات عن مهارات رقمية متقدمة.
وشددت عبد اللطيف على ضرورة تحديث المناهج الدراسية وربطها بواقع السوق، مستشهدة بتجربة سنغافورة في تعزيز مكانة التعليم الفني حتى أصبح منافسًا للتعليم الجامعي.
كما دعت إلى تعاون الدولة والقطاع الخاص لضمان انتقال آمن إلى المستقبل الرقمي دون خسائر اجتماعية أو اقتصادية، مؤكدة أن التكيّف مع التغيير هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوظائف وخلق فرص جديدة.