تتزايد المؤشرات على تعقّد المفاوضات الجارية لتشكيل القوة متعددة الجنسيات المزمع إرسالها إلى قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب، في ظل تحفظات إسرائيلية ومصرية على مشاركة تركيا ضمن هذه القوة، بحسب ما أوردته صحيفة معاريف العبرية.
ورغم تعذر التحقق بشكل مستقل من مضمون التقرير، فإن السياق الإقليمي وطبيعة التحركات الدبلوماسية الجارية يرسمان ملامح واقعية لحسابات الأطراف المعنية، التي تتأرجح بين الرغبة في تثبيت الاستقرار وتجنب تمدد النفوذ الإقليمي.
خلفية الملف: فكرة قوة “الاستقرار” لما بعد الحرب
بعد أسابيع من الدفع الأمريكي والعربي نحو تثبيت وقف إطلاق النار في غزة، برزت فكرة إنشاء قوة دولية “قابلة للعمل” لتأمين القطاع ودعم تنفيذ الترتيبات السياسية والأمنية لما بعد الحرب.
التصورات الأولية التي تداولتها أوساط دبلوماسية وصحفية تحدثت عن تشكيل القوة من دول عربية وإسلامية، أبرزها مصر والمغرب وإندونيسيا، مع إمكانية انضمام دول أخرى في مراحل لاحقة. وتدور المناقشات حول آليات القيادة، ومناطق الانتشار، ومهام القوة بين حفظ الأمن الداخلي والإشراف على إعادة الإعمار.
وفي هذا الإطار، تشكلت لجنة تنسيقية تضم الولايات المتحدة ومصر وتركيا وقطر لمتابعة مسار ما بعد وقف إطلاق النار، مع اجتماعات دورية في شرم الشيخ لدعم الرؤية السياسية والأمنية المشتركة. غير أن الخلاف حول هوية المساهمين العسكريين، وعلى رأسهم تركيا، ما زال يمثل عقدة أساسية في طريق التوافق.
الموقف التركي: استعداد مشروط واستراتيجية مرنة
منذ بداية النقاش حول مستقبل غزة، أبدت أنقرة استعداداً سياسياً وعسكرياً للمشاركة في أي مهمة لحفظ السلام عقب تثبيت الهدنة.
وزارة الدفاع التركية أعلنت أن قواتها “جاهزة لأي مهمة تُسند إليها” ضمن القوة الدولية، مستندة إلى خبرتها في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وحلف الناتو.
لكن تركيا، الواقعية في حساباتها، تدرك حساسية الميدان، ولذلك تطرح أيضاً أدواراً فنية وإنسانية بديلة، مثل المشاركة في فرق فنية لتحديد مواقع رفات الأسرى القتلى أو تقديم الدعم اللوجستي والإنساني. هذه المقاربة المرنة تعكس رغبة أنقرة في البقاء داخل دائرة التأثير دون أن تدفع ثمن مواجهة سياسية أو عسكرية مع أطراف أخرى.
حسابات تل أبيب: رفض أي “بصمة تركية” على حدودها
في المقابل، تُبدي إسرائيل، وفق تقارير عبرية وغربية، تحفظات واضحة على أي انتشار تركي داخل غزة. السبب الرئيس هو التوتر المزمن في العلاقات الثنائية مع أنقرة، واعتبارات أمنية ترى في الوجود العسكري التركي تهديداً محتملاً لتوازن القوى داخل القطاع.
التحليلات الإسرائيلية تعتبر أن تركيا، المنحازة تقليدياً إلى القضية الفلسطينية، لا يمكن النظر إليها كطرف “محايد”، ما قد يجعل أي انتشار تركي مصدر توتر ميداني دائم. لذلك، تميل تل أبيب إلى تفضيل قوة ذات طابع عربي أو أممي، تعمل بتنسيق مباشر مع الولايات المتحدة، مع الحد من أي دور تركي ميداني فاعل.
الموقف المصري: “نموذج سيناء” وضمانة أمريكية
أما القاهرة، التي تمثل الطرف العربي الأكثر التصاقاً بالملف الغزّي، فتركّز على صيغة قريبة من نموذج القوة متعددة الجنسيات في سيناء (MFO)، أي قوة تحت إشراف أمريكي واضح يضمن التمويل والانضباط ويمنع الانتهاكات.
هذه الصيغة تمنح مصر دور القيادة الميدانية واللوجستية بحكم الجغرافيا والخبرة، وتقلل في الوقت نفسه من حدة التنافس الإقليمي داخل مسرح عمليات حساس.
من هذا المنطلق، لا يُتوقع أن تؤيد القاهرة انتشاراً تركياً ثقيلاً داخل غزة، ليس كصدام مع أنقرة، بل حفاظاً على توازن سياسي وأمني يضمن استمرار التنسيق مع واشنطن وتل أبيب.
أسباب الاعتراض على الدور التركي
يمكن تلخيص أسباب التحفظ المصري والإسرائيلي في ثلاث نقاط رئيسية:
- التوازنات الإقليمية: وجود قوات تركية قد يُقرأ كاختراق لنفوذ القاهرة وتل أبيب في الملف الغزّي.
- تجنب الاحتكاك الميداني: زيادة عدد الفاعلين الإقليميين المسلحين تعني احتمالات أعلى لسوء التنسيق أو تضارب قواعد الاشتباك.
- الغطاء السياسي: الدول المشاركة تفضّل أن تكون القوة بغطاء أمريكي مباشر لتجنب اتهامات مستقبلية بالتحيّز أو الانتهاك.
السيناريو الأقرب: دور تركي محدود وتأثير سياسي غير مباشر
في ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الدور التركي في غزة سيتجه نحو المشاركة الرمزية أو الفنية، دون انتشار قتالي واسع. بينما تتولى دول عربية وإسلامية، بقيادة مصر، الجزء الأكبر من المهام الميدانية، في ظل إشراف وتمويل أمريكي واضح.
أنقرة، في المقابل، ستسعى لتعويض غيابها الميداني عبر أدوات نفوذ بديلة: الوساطة السياسية، والمساعدات الإنسانية، ودور رئيسي في إعادة الإعمار.
هكذا، تظل معركة ما بعد الحرب في غزة مفتوحة، ليس فقط على من يملك الأرض، بل على من يملك القرار في رسم ملامح “اليوم التالي” للقطاع.