في مشهد يثير التساؤلات أكثر مما يدعو للتباهي، أعلنت الحكومة الانتهاء من 95% من مشروع الربط الكهربائي مع السعودية، الذي تصل تكلفته إلى 1.6 مليار دولار، تمهيدًا لتشغيله بنهاية عام 2025. وبينما تصف الحكومة المشروع بأنه خطوة لتحويل مصر إلى “مركز إقليمي للطاقة”، يعيش المواطن المصري واقعًا مغايرًا تمامًا، حيث تكررت أزمات انقطاع الكهرباء في مختلف المحافظات، حتى باتت جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية.
 

مشروع ضخم... لكن لمن؟
تروّج الحكومة للمشروع باعتباره إنجازًا استراتيجيًا سيتيح تبادل الطاقة بين مصر والسعودية بقدرة تصل إلى 3000 ميجاوات، مستفيدة من اختلاف فترات الذروة بين البلدين. ويشمل المشروع إنشاء ثلاث محطات تحويل كبرى في بدر شرق القاهرة، والمدينة المنورة وتبوك في السعودية، تربطها خطوط هوائية وكابلات بحرية تمتد لنحو 1350 كيلومترًا.

وتبلغ حصة مصر في التكلفة نحو 600 مليون دولار، يتم تمويلها من قروض وصناديق عربية، في وقتٍ تواجه فيه البلاد أزمة ديون خانقة، وارتفاعًا غير مسبوق في عجز الموازنة، ما يطرح تساؤلات حول جدوى هذا الإنفاق الضخم على مشروعات خارجية قبل إصلاح ما هو متهالك في الداخل.
 

طموحات التصدير... وواقع الانقطاع
تؤكد الحكومة أن الربط الكهربائي يعزز “أمن الطاقة” ويفتح الباب أمام تصدير الفائض إلى آسيا وأوروبا، مستندة إلى شبكات الربط الأخرى مع الأردن واليونان وقبرص. لكن خلف هذه الشعارات البراقة، يقف واقع لا يخفى على أحد: انقطاع متكرر للكهرباء في العديد من المناطق، وشكاوى يومية من ضعف الخدمة وغياب الصيانة.
في صيف 2024، شهد المصريون واحدة من أسوأ موجات انقطاع الكهرباء منذ سنوات، إذ لجأت الحكومة إلى تخفيف الأحمال يوميًا تحت مبرر ارتفاع درجات الحرارة. ورغم تعهد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بعدم تكرار المشهد في صيف 2025، فإن المواطنين ما زالوا يعانون من أعطال متكررة، بعضها استمر لأيام كاملة.
 

أزمات تكشف هشاشة الشبكة
في يوليو 2025، ضرب عطل كبير محطة محولات جزيرة الذهب بمحافظة الجيزة، ما تسبب في انقطاع الكهرباء والمياه عن مناطق واسعة لمدة أربعة أيام متواصلة. لم يجد رئيس الوزراء بُدًّا من تقديم اعتذار رسمي للمواطنين، في مشهد نادر يكشف عمق الأزمة.

هذا الحادث وغيره من الأعطال المتكررة تقوض الثقة في تصريحات وزارة الكهرباء التي تؤكد “استقرار الشبكة ووجود فائض في الإنتاج”، في حين يختبر المواطن يوميًا واقعًا مختلفًا.
متحدث الوزارة أعلن أن الشبكة تجاوزت صيف 2025 دون انقطاعات متكررة، مسجلًا “حملًا أقصى تاريخيًا بلغ 39,800 ميجاوات”. إلا أن هذه الأرقام لا تصمد أمام ما يرويه المواطنون عن انقطاعات مفاجئة، وتدهور خدمات الصيانة، وتهالك المحولات في القرى والمدن.
 

جدل الأولويات: تصدير الفائض أم تلبية الاحتياج؟
يرى خبراء الطاقة أن المشروع، رغم أهميته من منظور إقليمي، يعكس خللًا واضحًا في ترتيب الأولويات. فبينما تنفق الحكومة مليارات الدولارات لتصدير الكهرباء إلى الخارج، ما زال الداخل يعاني من شبكة متهالكة تحتاج إلى تحديث عاجل واستثمارات في البنية التحتية، وليس مجرد توسع في مشروعات التصدير.

ويشير محللون إلى أن المنطق الاقتصادي لتبادل الطاقة مع السعودية لا قيمة له ما دامت الشبكة المحلية نفسها غير قادرة على تحمّل الأحمال أو مواجهة الأعطال الطارئة. بل إن المليار وستمائة مليون دولار التي رُصدت للمشروع كان يمكن أن تموّل تطوير محطات توليد وصيانة شبكات في المناطق المهمشة، وتضمن للمواطن خدمة مستقرة بدلاً من وعود “الفائض” الموجّه إلى الخارج.
 

استقرار الإضاءة... هو المعيار الحقيقي
في النهاية، وبينما تمضي الحكومة في تنفيذ مشروعاتها الطموحة لتصدير الكهرباء وجني العملة الصعبة، يبقى المواطن المصري في مواجهة ظلامٍ متكرر، واضطراب في الخدمات، ووعود لا تجد طريقها إلى الواقع.
فالمقياس الحقيقي لنجاح قطاع الكهرباء ليس في عدد الكابلات الممتدة بين العواصم، ولا في بيانات “الفائض”، بل في قدرة المواطن على إضاءة منزله دون خوف من انقطاعٍ مفاجئ.
إلى أن يتحقق ذلك، سيظل مشروع الربط الكهربائي عنوانًا لسياسة تستثمر في الخارج وتُهمل الداخل، وتحتفي بالإنجازات على الورق بينما يعيش المواطنون في عتمة الإنجاز المزعوم.