في فاجعة جديدة هزت مدينة الإسكندرية، تحول مستشفى "راقودة" الخاص بمنطقة كرموز إلى مسرح لكارثة إنسانية، حيث لقي مريض مصرعه وأصيب العشرات بحالات اختناق، بعد أن اندلعت النيران بشكل هائل في المبنى يوم الخميس، 9 أكتوبر 2025. الحادث لم يكشف فقط عن الخسائر البشرية والمادية، بل طرح تساؤلات حادة ومؤلمة حول غياب أبسط معايير الأمان وتطبيق "الكود المصري لحماية المنشآت من الحريق" في مؤسسة طبية يفترض أن تكون الملاذ الآمن للمرضى.
فاجعة معلنة وخسائر مؤلمة
اندلع الحريق في الطابقين الثالث والرابع من مستشفى راقودة (المعروف سابقًا باسم مستشفى البلشي)، وهو مبنى مكون من 12 طابقًا يقع على محور المحمودية. التحقيقات الأولية أشارت إلى أن ماسًا كهربائيًا كان الشرارة الأولى التي سرعان ما تحولت إلى حريق هائل امتد ليغطي واجهة المبنى بالكامل. أظهرت مقاطع الفيديو المتداولة ألسنة اللهب تتصاعد بكثافة، بينما كان الدخان يملأ الأجواء المحيطة، وسط حالة من الذعر بين أهالي المنطقة والأطقم الطبية.
رغم وصول أكثر من 16 سيارة إطفاء و24 سيارة إسعاف إلى الموقع، كانت الخسائر قد وقعت بالفعل. وأكدت المصادر الطبية وفاة سيدة كانت ضمن المرضى الذين تم إجلاؤهم، وذلك بعد نقلها إلى مستشفى آخر. كما أسفر الحادث عن إصابة العشرات من المرضى والمرافقين بحالات اختناق، حيث تم إجلاء 29 حالة وتوزيعها على مستشفيات قريبة مثل مستشفى جمال عبد الناصر ومستشفى كرموز العمال. لم تقتصر الخسائر على الأرواح والإصابات، بل امتدت لتشمل تفحم أجزاء كبيرة من واجهة المستشفى وتلفيات جسيمة في الداخل، بالإضافة إلى احتراق ثلاث سيارات كانت متوقفة أسفله.
غياب أنظمة الأمان: أين الكود المصري؟
تطرح هذه الكارثة الأسئلة التي رددها شهود العيان والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي: أين أنظمة الإطفاء الذاتي؟ أين إجراءات الأمن الصناعي؟ وأين تطبيق "الكود المصري"؟
الكود المصري لحماية المنشآت من الحريق: هو مجموعة من الاشتراطات والمعايير الإلزامية التي صدرت عن المركز القومي لبحوث الإسكان والبناء، وأصبحت واجبة التطبيق بموجب قانون البناء رقم 119 لسنة 2008. يهدف الكود بالأساس إلى تحقيق أقصى درجات سلامة الأرواح وتقليل الخسائر المادية، ويحدد متطلبات دقيقة للمنشآت المختلفة، خاصة المستشفيات، تشمل مسارات الهروب، أنظمة الإنذار المبكر، وشبكات الإطفاء التلقائي.
أنظمة الإطفاء الذاتي: تتنوع هذه الأنظمة بين شبكات رشاشات المياه، وأنظمة الإطفاء بالغازات النظيفة مثل FM-200 المخصصة للحرائق الكهربائية، وكاشفات الدخان والحرارة المتطورة. سرعة انتشار الحريق في مستشفى راقودة تشير بقوة إلى غياب هذه الأنظمة أو على الأقل تعطلها، مما حوّل حادثًا يمكن السيطرة عليه إلى كارثة.
الأمن الصناعي: يمثل خط الدفاع الأول في أي منشأة، ويشمل تدريب العاملين على مواجهة الطوارئ، والصيانة الدورية للأنظمة الكهربائية ومعدات الإطفاء، والتأكد من خلو ممرات الهروب.
النيابة العامة باشرت التحقيقات وأمرت بطلب ملف تراخيص المستشفى لفحص مدى التزامه باشتراطات الدفاع المدني والأمن الصناعي، وهو إجراء يكشف عن وجود شكوك قوية حول قانونية إجراءات السلامة المتبعة.
حرائق المستشفيات: جرس إنذار لا يتوقف
حادثة مستشفى راقودة ليست الأولى من نوعها، بل هي حلقة جديدة في مسلسل متكرر من حرائق المنشآت الطبية في مصر، والتي غالبًا ما تكشف عن مستوى صادم من الإهمال. ففي فبراير 2023، أودى حريق مستشفى بالمطرية في القاهرة بحياة 3 أشخاص وأصاب 32 آخرين، ونبه وقتها إلى ضرورة مراجعة ضوابط الحماية المدنية، خاصة في المستشفيات التابعة للجمعيات الأهلية والخاصة.
ويشير خبراء إلى أن العديد من المستشفيات في مصر، خصوصًا القديمة التي تم إنشاؤها قبل عام 2007، تفتقر لأبسط وسائل مكافحة الحريق، ولا تخضع للتحديثات اللازمة لتتوافق مع الكود المصري الحديث. كما أن هناك غيابًا شبه تام لأنظمة الإنذار والإطفاء في مستشفيات حكومية وخاصة، أو تعطلها بسبب غياب الصيانة، مما يجعلها قنابل موقوتة.
إن حريق مستشفى راقودة هو نتيجة حتمية لغياب الرقابة وتراخي تطبيق القانون. فبينما تستمر التحقيقات لتحديد المسئوليات الجنائية، تبقى الحقيقة المرة أن أرواح المرضى وسلامتهم أصبحت رهينة لمنظومة صحية تعاني من إهمال مزمن في تطبيق معايير الأمان، وهو ما يتطلب وقفة حاسمة ومحاسبة شاملة لمنع تكرار مثل هذه المآسي.