في حفل تخرج دفعة جديدة من أكاديمية الشرطة مطلع أكتوبر 2025، أطلق قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي وعودًا جديدة بتعافي الاقتصاد قائلاً إن “مؤشراتنا الاقتصادية هتبقى أفضل”، وإن “كل يوم أفضل من اللي قبله”. تصريحاته التي اتخذت شكل قسم وطنيّ جاءت وسط تصفيق الحضور وإخراج إعلامي مُتقن، لكنها بدت، وفق بيانات رسمية وتقارير اقتصادية وحقوقية حديثة، بعيدة كل البعد عن حياة المصريين اليومية التي تئنّ تحت تضخم مرتفع، ودولار يقترب من 48 جنيهًا، وبرنامج متسارع لبيع أصول الدولة، واستمرار ملف المعتقلين السياسيين بلا انفراجة حقيقية.

 

تفنيد وعود “التحسن” بأرقام الواقع

تؤكد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن التضخم الحضري بلغ 11.7% في سبتمبر بعد أن كان 12% في أغسطس، مع ارتفاع شهري جديد بنسبة 1.5% مدفوع بزيادة أسعار الغذاء والخضروات، ما يعني استمرار تآكل القوة الشرائية رغم الحديث عن “تباطؤ سنوي”.

وفي 2 أكتوبر، خفّض البنك المركزي سعر الفائدة 100 نقطة أساس للمرة الأولى منذ ثلاثة أشهر، في خطوة رآها الخبراء محاولة لبعث الثقة، لكنها تأتي وسط تحذيرات من عودة الضغوط التضخمية فور تطبيق زيادات الوقود المرتقبة، ما يقوّض وعود “التحسن المتواصل” التي يكررها السيسي في خطاباته.

التحسن في الأرقام لا يظهر في الأسواق، بل في الخطاب فقط. فالمواطن يواجه كل يوم زيادة في الأسعار بلا تعويض في الدخل، بينما تزداد مؤشرات التفاوت الاجتماعي اتساعًا، وهو ما ينسف الرواية الرسمية من أساسها.

 

الدولار والأجور: الفجوة التي لا تُردم

في الوقت الذي يتحدث فيه السيسي عن تحسن الوضع، يستقر سعر الدولار عند حدود 47.5–47.7 جنيهًا، وهو أعلى مستوى تاريخي تقريبًا. هذا السعر ينعكس مباشرة على تكلفة الاستيراد وأسعار السلع الأساسية، دون أن يصاحبه ارتفاع مماثل في الأجور أو المعاشات.

تراجع التضخم السنوي لا يعني انخفاض الأسعار، بل تباطؤ زيادتها فحسب، وهو ما لا يشعر به المواطن. فالموظفون والعمال ما زالوا يتقاضون دخولًا ثابتة لا تكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية، بينما تتآكل الطبقة الوسطى تدريجيًا. في هذا السياق، تصبح تصريحات السيسي عن “التحسن” أقرب إلى خطاب إنكاري منفصل عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي.

 

بيع الأصول: سيولة عاجلة أم تسييل للدولة؟

في أغسطس 2025، سُرّعت صلاحيات صندوق مصر السيادي ليتمكن من بيع الأصول العامة مباشرة، ضمن ما يسمى “وثيقة ملكية الدولة”. وتبعتها صفقات شملت حصصًا في شركات استراتيجية وفنادق تاريخية، في مقابل الحصول على سيولة دولارية سريعة.

لكن خبراء الاقتصاد يرون أن هذا المسار ليس “إصلاحًا هيكليًا”، بل تسييل ممنهج لأصول الدولة لسد عجز التمويل قصير الأجل. بيع الأصول بهذا الإيقاع المتسارع يفرّغ شعار “التحسن” من معناه، ويكشف عن اعتماد السلطة على موارد غير مستدامة بدلاً من بناء قاعدة إنتاجية حقيقية.

الحكومة تروج للأمر باعتباره “تعظيمًا للعائد”، لكن الواقع يقول إن الأصول تباع في ظروف ضغط، وبقيم أقل من السوق، لصالح مستثمرين خارجيين يملكون مفاتيح قطاعات حيوية كانت في السابق مملوكة للشعب.

 

السجناء السياسيون: نفي رسمي ووقائع قاسية

في موازاة الأزمة الاقتصادية، يواصل النظام إنكار وجود معتقلين سياسيين رغم الأدلة والنداءات الدولية. ورغم قرارات محدودة بإخلاء سبيل 39 شخصًا في سبتمبر، فإن منظمات حقوقية تؤكد بقاء عشرات الآلاف قيد الاحتجاز في ظروف قاسية.

تقرير “هيومن رايتس ووتش” الأخير اتهم الحكومة بحجب الأرقام الرسمية للسجناء منذ التسعينات، وبالاستمرار في توثيق حالات وفاة نتيجة الإهمال الطبي وسوء المعاملة. ومع ذلك، يواصل السيسي الحديث عن “الاستقرار” و“التحسن”، متجاهلًا أن القمع السياسي جزء من معادلة الانكماش الاجتماعي والاقتصادي.

 

لماذا يقسم الآن؟ قراءة في التوقيت والخطاب

يأتي القسم الجديد في لحظة دقيقة: تزامن مع خفض الفائدة، وتوقعات بارتفاع أسعار الوقود، وتصاعد الغضب الشعبي من موجات الغلاء. اختيار منصة أكاديمية الشرطة ليس بريئًا؛ فالسيسي يوظف الرمزية الأمنية واللغة العاطفية لتمرير رسائل “الاصطفاف والثقة” وسط أزمات معيشية خانقة.

القَسَم هنا يصبح أداة سياسية لا اقتصادية، يُستدعى لتعويض غياب النتائج الملموسة بالأداء الخطابي، وتحويل الأزمة إلى اختبار ولاء لا إلى قضية كفاءة.

 

قَسَم في الهواء وواقع على الأرض

رغم الوعود، لا يرى المصريون تحسنًا حقيقيًا في معيشتهم. الدولار يقترب من 48 جنيهًا، التضخم الشهري يعود للارتفاع، والأصول تُباع في سباق مع الوقت، بينما آلاف السجناء ينتظرون العدالة خلف الجدران.

قسم السيسي بأن “الوضع الاقتصادي بيتحسن يومًا بعد يوم” قد يلقى تصفيق الحضور، لكنه لا يملأ موائد الفقراء ولا يخفف فواتير الكهرباء والغذاء. وبينما يتحدث عن “الثقة في الغد”، يعيش الناس حكاية أخرى تمامًا — حكاية الجنيه الذي يتراجع، والدولة التي تذوب قطعة بعد أخرى في سوق لا ترحم