كشف مصدر مصري مطّلع، لـ«الشرق الأوسط»، عن حقيقة اختيار مدينة العريش المتاخمة للحدود مع قطاع غزة، مقرًا للهيئة الدولية لإدارة القطاع بعد وقف الحرب، مؤكدًا أن «الأمر متروك للتفاوض» في ظل الدمار الذي لحق بالقطاع، ولافتًا إلى أن «مصر مع أي موقف يُمكِّن الفلسطينيين من حكم بلادهم دون تعدٍّ عليهم أو تجاهل أو تجاوز لهم».

وفي الأثناء، انطلقت في مدينة شرم الشيخ مفاوضات بشأن تنفيذ المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، المكوّنة من 20 مادة، لتشكل إطارًا عامًا يرسم مستقبل غزة.
وتتركز النقاشات حول ما يسمى بـ«اليوم التالي»، أي مستقبل القطاع بجوانبه كافة، من مصير حماس ونزع السلاح والحوكمة وإعادة الإعمار، إلى العلاقة بين غزة والضفة الغربية، وبينها وبين السلطة الفلسطينية.

في هذا السياق، يبرز الدور الذي لعبه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، إذ أظهرت المعلومات المتقاطعة أن «خطة ترمب» وُلدت من خلال مناقشات جرت في البيت الأبيض بمشاركة ترمب وصهره جاريد كوشنر وبلير نفسه، وأن معهد بلير للتغيير العالمي هو من تولى صياغة نواة الخطة التي تسربت موادها لاحقًا.
وقد عرضت صحيفة لو فيغارو الفرنسية جوانب منها، مشيرة إلى أن البند التاسع ينص على قيام «سلطة انتقالية» تحت إشراف «لجنة السلام» برئاسة ترمب، وبلير هو الاسم الوحيد الوارد إلى جانبه في هذا البند، ما يجعله المرشح الأبرز لقيادة الإدارة الدولية لغزة.

وخلال الأيام الماضية، كشفت صحيفتا هآرتس والغارديان عن وثيقة أعدها بلير تتضمن تصورًا لإدارة غزة بعد الحرب، يقوم على إنشاء سلطة انتقالية ذات طابع دولي تمنح للفلسطينيين دورًا محدودًا في إدارة الشؤون اليومية، ومقرها مدينة العريش المصرية.
والعريش – المدينة المصرية الاستراتيجية المتاخمة لغزة – أعيد تأهيل مطارها حديثًا بعد القضاء على الإرهاب، واستخدمت خلال الحرب كممر رئيسي للمساعدات الإنسانية إلى القطاع.

وأكد المصدر المصري لـ«الشرق الأوسط» أن قطاع غزة غير مهيأ لأي عمل سياسي أو إنساني أو إداري، وأن موقع إدارة القطاع لا يزال محل نقاش وقد يواجه اعتراضات من الطرفين المتحاربين، إسرائيل و«حماس»، مشيرًا إلى أن اختيار العريش «متروك للتفاوض»، وأن الحديث عنه الآن سابق لأوانه في ظل الأولويات الراهنة مثل إطلاق الأسرى والرهائن.

وأوضح المصدر أن مصر «تقدّم ما يلزم لخدمة خطة ترمب لوقف الحرب، شريطة احترام السيادة الفلسطينية»، مؤكدًا أن القاهرة لا تعارض أي أدوار دولية استشارية طالما تصب في تمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم، ولا تتعدى على سيادتهم أو تتجاهلها.
وأضاف أن أي مقر محتمل في العريش أو دور لشخصيات مصرية سيكون «مرحّبًا به طالما يأتي في إطار جهد استشاري يهدف لتمكين الفلسطينيين وتسهيل إعادة الإعمار بما يخدم الأمن القومي المصري وحقوق الفلسطينيين».

وتقترح الخطة أسماءً بارزة لعضوية المجلس الدولي، بينهم سيغريد كاغ المنسقة الأممية لعملية السلام، والملياردير المصري نجيب ساويرس، ورجل الأعمال الأميركي مارك روان، والإسرائيلي الأميركي آرييه لايتستون، إلى جانب «ممثل فلسطيني مجهول الهوية وغير متمتع بأي صلاحية».
ووفقًا للوثيقة، سيكون بلير رئيسًا للسلطة الانتقالية، وكاغ نائبة له للشؤون الإنسانية، وروان رئيسًا لصندوق إعادة الإعمار، وساويرس مسؤولًا عن الاستثمارات الإقليمية، ولايتستون ممثلًا عن اتفاقات إبراهيم.

أما الهيكل الإداري المقترح فيقوم على ثلاث طبقات:

  • طبقة أولى تمثل المجلس الدولي المشرف على غزة.
  • طبقة ثانية من «مديرين فلسطينيين محايدين» يديرون القطاعات العامة تحت إشراف مباشر من المجلس.
  • طبقة ثالثة من «مجلس استشاري محلي» بلا صلاحيات تنفيذية.

وتحدد الخطة مراحل زمنية تمتد من ثلاث سنوات إلى خمس، تبدأ بمرحلة تأسيسية أولى لمدة 3 أشهر، يعقبها «انتشار أولي» يدوم 6 أشهر لتأمين الوضع الأمني، ثم مرحلة إعادة إعمار تستمر من سنتين إلى ثلاث سنوات، على أن تنتهي بعملية «نقل تدريجي» للمسؤوليات إلى «السلطة الفلسطينية المعدلة».

لكن الخطة – كما تسربت – تكشف تغييبًا شبه كامل للفلسطينيين، سواء سكان القطاع أو المهجرين والمدمرة بيوتهم، فيما تُوكَل المسؤولية الأمنية والإدارية لقوى غير فلسطينية وشركات ربحية، في صيغة توحي بـ«خصخصة الإعمار» وتحويل المأساة إلى فرصة استثمارية.

وهنا يتضح السؤال الجوهري: هل طوني بلير أول الواقفين في طابور الحكام الغربيين الجدد لمنطقتنا؟
يبدو أن واشنطن ولندن قررتا فتح باب “التوظيف الدولي” من جديد: من يفشل في بلاده يُمنح ولايةً على الشرق الأوسط.
فبعد بلفور الذي وعد، وبلير الذي يخطط، قد نرى قريبًا لجنة من “الخبراء” لإدارة شعوبنا بالتناوب، مستفيدين من عناوين براقة مثل “الإصلاح” و“الاستقرار” و“إعادة الإعمار”.

إنها صيغة جديدة من الاستعمار الحديث بخدمة خمس نجوم، حيث تُمارس الوصاية بأدوات ناعمة، وتُدار الأوطان بخطاب إنساني متأنق، بينما تُسلب شعوبها حق القرار باسم “الواقعية السياسية”. إن تحويل العريش – المدينة المصرية – إلى مقر محتمل لـ«هيئة إدارة غزة» ليس مجرد خيار إداري، بل رمز سياسي خطير، يوحي بإقامة إدارة فوق وطنية تتحكم في مصير الفلسطينيين من خارج حدودهم، وتضع مصر نفسها في قلب معادلة الوصاية الجديدة على المنطقة.

إن الخطر لا يكمن فقط في الأسماء المقترحة أو في الطموحات الدبلوماسية لطوني بلير، بل في الفكرة ذاتها: فكرة أن الغرب يحق له إدارة منطقتنا متى فشلنا في “إدارة أنفسنا”، وأنه وحده يعرف مصالحنا أكثر منا.
إنه الخطاب نفسه الذي بدأ مع بلفور، واستمر مع الاحتلال البريطاني، وها هو يعود الآن بأناقة ما بعد استعمارية: وصاية مقنّعة بلغة “الإنقاذ الإنساني” و“إعادة البناء”، لكنها في جوهرها إعادة إنتاج للهزيمة بأدوات عصرية.