تمدد الدروس الخصوصية إلى الجامعات ليس تفصيلًا عابرًا، بل علامة على تسليع المعرفة وتفريغ الحرم الجامعي من دوره لصالح سوق ظلّ يبيع ما كان يفترض أن تقدمه المؤسسة الأكاديمية بجودة وعدالة. تتجاور الإعلانات على جدران الكليات مع مذكرات جاهزة ودورات مدفوعة، فيما تتآكل الثقة ويترسخ تفاوت طبقي بين من يملك كلفة الفهم ومن يبقى أسير مدرج مكتظ وتعليم تلقيني.
الحرم سوقًا لا مؤسسة
انتشار إعلانات مراكز خصوصية في محيط جامعات طنطا والقاهرة وعين شمس حوّل فضاء الجامعة إلى سوق مفتوح لبيع الشرح، حيث يُدفع الطلاب إلى خدمات خارجية بدل تلقي تعلم تفاعلي في المدرج. يصف عاصم حجازي، أستاذ علم النفس التربوي بجامعة القاهرة، وجود إعلان صريح داخل الحرم بأنه “جريمة تستوجب المحاسبة”، رابطًا الظاهرة بقبول يفوق طاقة الكليات ويستلزم تقسيم الطلاب لمجموعات أصغر وتفعيل تعلم مدمج جاد، لا شكلي.
اقتصاد ظلّ يكرّس اللامساواة
تقديرات الإنفاق على الدروس الخصوصية قبل الجامعية تصل إلى عشرات المليارات من الجنيهات سنويًا، ومع تمدد الظاهرة إلى الجامعة تتضاعف الكلفة الفعلية للتعلم: رسوم رسمية بلا جودة مكافئة، وكلفة موازية لشراء الفهم الأساسي. هذا الواقع يحول المعرفة إلى امتياز مدفوع، ويضرب مبدأ تكافؤ الفرص، ويُبقي الطالب الفقير رهينة “ملخّص” وامتحان بلا بناء معرفي.
تواطؤ الصمت وتضارب المصالح
يحذر المحاضر الجامعي معتز عسال من أن انتشار إعلانات الدروس داخل الحرم دون موافقات رسمية يشي بتورط عناصر أكاديمية في تشغيل مراكز خصوصية للمقررات نفسها، منتقدًا الاكتفاء بالمعدل لاختيار المعيدين دون اختبار لقدرات الشرح والتواصل. هذا التضارب ينسف مصداقية التقييم والامتحان ويحوّل الجامعة إلى واجهة بينما يُباع المحتوى خارجها.
الطلاب بين الاكتظاظ وثقافة الملخص
يشكو طلاب من قاعات مزدحمة ومحاضرات عامة “تقدم الأساسيات” دون تفاعل كافٍ، خصوصًا في المواد العملية مثل التشريح والباثولوجي، ما يدفع إلى دورات تبسّط وتتيح مساحة للأسئلة والتمرين. تتحول المذكرات الجاهزة إلى بديل للمقررات، وينزاح الهدف من بناء معرفة إلى عبور امتحان، فتفقد التجربة الجامعية معناها التعلمي لصالح أداء شكلي.
أصل الداء: تلقين واختناق إداري
ترى أسماء محمد نبيل، أستاذة مساعدة لعلم الاجتماع التربوي بجامعة عين شمس، أن ثقافة التلقين منذ المراحل المبكرة شرعنت “المركز التعليمي” بديلًا عن المؤسسة الأكاديمية، وأن ازدحام المدرجات وضعف الشرح يدفعان الطلاب قسرًا لمصادر خارجية. تعتبر الظاهرة مخالفة للوائح ومظهر خلل إداري، وتدعو لربط المناهج بسوق العمل وتقسيم الطلاب لمجموعات صغيرة لتمكين أساليب تدريس حديثة.
إحصائيات وأرقام
إنفاق الأسر على الدروس الخصوصية قبل الجامعية يقدّر بعشرات المليارات سنويًا، مع اتساع الظاهرة للجامعات، ما يعني عبئًا سنويًا متناميًا على الدخل العائلي.
الكثافات المرتفعة في الكليات النظرية والعملية بالجامعات الحكومية تدفع الطلب على الشرح الخارجي، في ظل عجز واضح في أعضاء هيئة التدريس.
تمدد الظاهرة إلى الجامعات الخاصة عبر مجموعات مغلقة ومنصات غير رسمية يكرّس التعليم الموازي كقناة رئيسية للفهم، لا مجرد “تقوية”.
وفي النهاية فإن ما يجري ليس “دروس تقوية” بل خصخصة صامتة لمعنى الجامعة تديرها شبكة مصالح داخل وخارج الحرم، تموّلها الأسر وتدفع ثمنها العدالة التعليمية. من دون كسر تضارب المصالح وضبط الإعلانات وخفض الكثافات وتحصين التعلم المدمج المجاني والملزم داخل منصات رسمية، سيواصل التعليم الموازي ابتلاع الجامعة درسًا بعد درس. المطلوب استعادة الجامعة كحق عام، لا كخدمة تُشترى ساعة بساعة.