في فصل جديد ومؤلم من فصول مسلسل نزيف التراث المصري، استيقظ الوسط الأثري والثقافي على وقع جريمة مدوية، تمثلت في سرقة "لوحة الفصول" النادرة من مقبرة "خنتي كا" في منطقة سقارة الأثرية. الجريمة التي كشفت عنها البعثة الإنجليزية لم تكن مجرد سرقة عادية، بل عملية بتر وحشية لجزء من تاريخ مصر، حيث تم قص اللوحة الأثرية من جدار المقبرة باستخدام منشار، في عمل يكشف عن جرأة غير مسبوقة واستهانة بقيمة كنوز لا تقدر بثمن. هذه الحادثة، التي أحالتها وزارة السياحة والآثار إلى النيابة العامة للتحقيق ، لا تقف كواقعة معزولة، بل تأتي كحلقة أخيرة في سلسلة من السرقات الفاضحة التي عصفت بالمتاحف والمواقع الأثرية المصرية مؤخراً، لتطرح أسئلة مريرة حول مدى فاعلية منظومة الحماية والتأمين، وتكشف عن هشاشة النظام الذي يفترض به أن يكون حارساً على أعظم إرث في تاريخ الإنسانية.
جريمة مع سبق الإصرار.. تفاصيل سرقة "لوحة الفصول"
تكمن الصدمة الكبرى في تفاصيل الجريمة ذاتها. فمقبرة "خنتي كا"، التي تعود لعصر الدولة القديمة، كانت مغلقة وتُستخدم كمخزن للآثار منذ اكتشافها، ولم يتم فتحها رسمياً منذ عام 2019. هذا المعطى يجعل من اكتشاف السرقة محض صدفة، ويثير الشكوك حول أن الجريمة وقعت منذ فترة طويلة دون أن ينتبه إليها أحد، مما يعكس قصوراً فاضحاً في إجراءات الجرد والمتابعة الدورية. إن استخدام منشار لقطع لوحة حجرية منقوشة بمساحة 40x60 سم تقريباً، والتي توثق فصول السنة والحياة اليومية في مصر القديمة ، يدل على أن الفاعلين تصرفوا بأريحية تامة وفي غياب أي رقابة. وقد سارعت وزارة الآثار إلى تشكيل لجنة لجرد محتويات المقبرة وتحويل الأمر برمته للنيابة ، لكن هذه الإجراءات، على أهميتها، تأتي بعد وقوع الكارثة، وتؤكد أن هناك خللاً بنيوياً عميقاً في آليات حماية المواقع الأثرية، خاصة تلك المغلقة أو المستخدمة كمخازن، والتي تحولت إلى أهداف سهلة للصوص محترفين يعملون على الأغلب بتواطؤ من الداخل.
من المتحف الكبير إلى سقارة.. نمط متكرر من الخيانة الداخلية
لا يمكن فهم حادثة سقارة دون وضعها في سياقها الأوسع، وتحديداً جريمة سرقة "الإسورة الذهبية" التي هزت المتحف المصري بالتحرير قبل أسابيع قليلة. في تلك الواقعة، قامت موظفة ترميم بسرقة إسورة نادرة يتجاوز عمرها 3000 عام "بأسلوب المغافلة"، وباعتها لتاجر قام في النهاية بصهرها وتدميرها إلى الأبد مقابل حفنة من الجنيهات. هذه الجريمة لم تكن مجرد سرقة، بل كانت "خيانة" من الداخل، وكشفت عن ثغرات أمنية قاتلة وضعف الرواتب الذي قد يدفع البعض لبيع تاريخ بلادهم. التشابه بين الحادثتين مقلق للغاية؛ فكلاهما يشير بقوة إلى وجود تواطؤ داخلي، حيث لا يمكن تنفيذ مثل هذه العمليات المعقدة دون معلومات دقيقة وتسهيلات من قلب المنظومة. إن تكرار هذا النمط، من أهم متحف في مصر إلى مقبرة تاريخية مغلقة، يؤكد أن المشكلة ليست في حارس مهمل أو كاميرا معطلة، بل في شبكة من الفساد والإهمال تمتد وتتغلغل في جسد قطاع الآثار.
منظومة مهترئة وقوانين غير رادعة
تضعنا هذه السرقات المتتالية وجهاً لوجه أمام حقيقة أن منظومة حماية الآثار في مصر تعاني من أزمة هيكلية. فالاعتماد على أساليب تقليدية في التأمين والجرد، وغياب التفعيل الحقيقي للضوابط المنظمة للعمل في مخازن الآثار، كلها عوامل تجعل الكنوز المصرية فريسة سهلة. ورغم أن القانون المصري ينص على عقوبات مشددة تصل إلى السجن المؤبد في بعض الحالات للمتورطين في سرقة الآثار، خاصة إذا كانوا من العاملين بالدولة ، إلا أن تكرار الجرائم يثبت أن هذه العقوبات ليست رادعة بما فيه الكفاية، أو أن آليات تطبيقها قاصرة. يطالب العديد من الخبراء بتغليظ العقوبات لتصل إلى حد "الخيانة العظمى" ، لكن الحل لا يكمن فقط في القوانين، بل في إعادة بناء المنظومة بأكملها، بدءاً من رفع كفاءة ومستوى معيشة العاملين في قطاع الآثار، وانتهاءً بتطبيق أحدث النظم التكنولوجية في التوثيق والمراقبة.

وختامًا، إن سرقة "لوحة الفصول" ليست مجرد فقدان لقطعة حجرية، بل هي اعتداء على الذاكرة الجماعية للأمة وهويتها الحضارية. إن عجز الدولة عن حماية تاريخها هو مؤشر خطير على تآكل قدرتها على بناء مستقبلها. وما لم يتم التعامل مع هذه الجرائم كقضية أمن قومي من الطراز الأول، وإجراء مراجعة شاملة وصادقة لكافة جوانب القصور والإهمال والفساد، فإننا سنظل نقرأ عن فصول جديدة من هذا المسلسل الحزين، الذي تُسرق فيه كنوز مصر قطعة تلو الأخرى، لتختفي إلى الأبد في ظلام أسواق التجارة غير المشروعة.