شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً مقلقاً في ظاهرة تأجير الموانئ المصرية الاستراتيجية لشركات إماراتية تحت مسمى الاستثمار والتنمية، حيث تمتد فترة التأجير إلى 50 عاماً، مع تقديم تسهيلات واسعة وشروط اقتصادية وقانونية مريبة تساعد في ترسيخ السيطرة الأجنبية على مفاصل حيوية للاقتصاد الوطني.

هذا الواقع يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري وانتهاكًا لسيادة البلاد، ويثير تساؤلات جدية حول مدى جدية النظام في حماية مصالح الدولة وشعبها.
 

حجم التجارة وأهمية الموانئ المصرية
تمثل الموانئ المصرية شرايين حيوية للتحكم في حركة التجارة العالمية بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، إذ تمر عبرها نحو 220 مليون طن من البضائع سنويًا، بما يعادل أكثر من 12% من العائدات الاقتصادية لمصر ذات الصلة بالتجارة الخارجية، وفق بيانات رسمية. هذه الموانئ ليست فقط بوابة مصر الاقتصادية، بل تمثل ضمانة حيوية لأمنها الغذائي والطاقة، وتحكمها شركات أجنبية يعني تفريغ مصر من أوراق قوتها.

نحو 90% من التجارة المصرية تمر عبر الموانئ البحرية، والموانئ المؤجرة تستقبل أكثر من 220 مليون طن من البضائع سنويًا، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2024. وتُبلغ إيرادات الموانئ المصرية السنوية أكثر من 35 مليار جنيه، ويمثل تأجيرها احتمال خسائر كبيرة في الإيرادات الحكومية المباشرة وغير المباشرة.
 

تفاصيل عقود التأجير وحجم الاستثمار الإماراتي
تتضمن العقود الموقعة تأجير ميناء العين السخنة وموانئ استراتيجية أخرى مثل بورسعيد والعلمين لشركات إماراتية بمدة 50 عاماً، مع نسبة سيطرة تصل إلى 70% لهذه الشركات على رأس مال المشروعات المشتركة، إضافة إلى منحها إعفاءات جمركية وضريبية تتيح لها نقل الأرباح خارج البلاد بحرية. تتجاوز الاستثمارات المتوقع ضخها في هذه المشاريع مبلغ 5 مليارات دولار أمريكي، لكن تفاصيل التحويلات المالية ونتائج الاستثمار تبقى غامضة، مما يفتح الباب أمام استنزاف موارد مصرية هامة بدون عوائد حقيقية على التنمية.

تقدر الإمارات بحصة سوقية تبلغ 17% في قطاع تشغيل الموانئ بمنطقة شرق المتوسط، وفقًا لتقارير غرفة التجارة الدولية 2025. وتشير تقارير إلى أن العائدات المالية التي تعود إلى الدولة من هذه الاستثمارات لا تتجاوز 30%، بحسب المطلعين على الاتفاقيات.
 

المخاطر الجيوسياسية وتأثيرها على الأمن القومي
أدى استحواذ الشركات الإماراتية على هذه المرافق الأساسية إلى تهديد مباشر للأمن القومي المصري، حيث يعطي القدرة على مراقبة وتأثير حركة البضائع والسلع الاستراتيجية. وهذا يتحول إلى سلاح جيوسياسي يهدد قدرة مصر على التحكم في مواردها وخطوط إمدادها، خصوصًا في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة، مما يعرضها للمساومات والابتزاز ضمن صراعات دولية وإقليمية معقدة.

الأمن القومي ودوره في حماية الاقتصاد الاستراتيجي يتعرض بحدة لخطر كبير جراء هذه الاتفاقيات، وفقاً للدكتور أحمد حسني، الخبير في الأمن القومي والاستراتيجيات الإقليمية، الذي أكد أن "التنازل عن إدارة مرافق بحرية استراتيجية كشكل من أشكال الاستثمارات طويلة الأمد يُصيب السيادة الوطنية بجروح عميقة، ويضع مصر في موقف ضعف على المستويين السياسي والاقتصادي". وأضاف أن "مثل هذه الاتفاقيات تخدم مصالح الأطراف المستثمرة الأجنبية أكثر من الدولة المالكة، وتفتح المجال لسوء استغلال التبعية لجيوسياسية المحيط".
 

تداعيات قانونية وسياسية
تتمتع هذه العقود بصيغة قانونية تجعل تعديلها أو فسخها عملية معقدة وصعبة، تقيّد قدرة السلطات المصرية على حماية مصالحها في حال تغيرت الظروف السياسية أو الاقتصادية. وفي السياق السياسي، توضح المحللة السياسية ليلى محمود أن "هذه الاتفاقيات تعكس سياسة النظام القائم القائمة على استرضاء قوى خارجية على حساب السيادة الوطنية، في محاولة لإحكام قبضته على مقدرات الدولة".
 

التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية السلبية
فقدان السيطرة على الموانئ الحيوية يعني تأثراً مباشراً في عائدات الدولة، التي تستخدم لدعم قطاعات حيوية وخدمات عامة لمواطنيها. هذا النزيف المالي يتزامن مع زيادة معدلات الفقر والبطالة، حيث تستفيد الشركات الأجنبية وليس المواطن المصري. ويزيد من تزعم المؤسسة العسكرية للمشاريع التي كان يفترض أن تخدم التنمية الشاملة، ما يقنع الكثيرين بفقدان الأمل في تحقيق تنمية حقيقية.

الخلاصة أن تأجير الموانئ المصرية للشركات الإماراتية لمدة 50 عاماً يشكل تفريطاً استراتيجياً في السيادة الوطنية وتهديداً مباشراً للأمن القومي والاقتصادي. من الضروري أن تقوم الجهات المختصة بمراجعة هذه الاتفاقيات، وإعادة التفاوض لصالح مصر، مع وضع آليات رقابية صارمة لضمان تحقيق التنمية الحقيقية وحماية مصالح الدولة وشعبها. يجب أن يكون الاستثمار مصحوباً بسيادة وطنية حقيقية لا تتنازل عنها، بتعزيز قدرات مصر الذاتية والحفاظ على استقلال قرارها الوطني بعيداً عن الابتزاز والتبعية.