في الحروب التقليدية، يُقاتل الجيوش بعضها بعضًا بالسلاح والدبابات والطيارات، لكن في الحروب الحديثة الاستراتيجية تتعدى الميدان المادي لتشمل ميدان الأفكار، والعقول، والسردية الإعلامية. السيطرة على الصورة في العلن، القدرة على التأثير على الرأي العام العالمي، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الإعلام يعتبر الآن سلاحًا يُحتمل أن يكون أقوى من الصواريخ.

الحديث الأخير حول لقاء نتنياهو مع مؤثرين أمريكيين، والمناقشات المتصاعدة عن كيفية استخدام إسرائيل لشبكات الإعلام والتواصل الاجتماعي، توضح كيف أن هذه الحرب على السردية باتت جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية السياسية والدبلوماسية.
 

لقاء نتنياهو مع المؤثرين ودور وسائل التواصل الاجتماعي
مؤخرًا، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمجموعة من المؤثرين الأميركيين الموالين لإسرائيل في نيويورك، بعد خطابه في الأمم المتحدة، في مقر القنصلية الإسرائيلية.
خلال الاجتماع، أكد نتنياهو أن وسائل التواصل الاجتماعي هي "السلاح" الأهم لـ «تأمين القاعدة الأساسية» في الولايات المتحدة.
وهو تحديدًا أشار إلى منصات مثل TikTok وX (تويتر سابقًا)، وذكر أن السيطرة على الخوارزميات والسيطرة على المحتوى قد يكون لها أثر كبير في تحريك الرأي العام.
يرى نتنياهو أن الحرب الإعلامية أو السردية باتت جزءًا من "الحرب" ككل، وأنه لا يكفي الانتصار العسكري بل يجب الانتصار في السرد، في مواجهة ما يصفه بـ "موجة الكراهية والتشويه".
 

استراتيجيات السرد ونماذج السيطرة الإعلامية
من خلال ما هو معروف حتى الآن، يمكن تلخيص بعض التكتيكات والاستراتيجيات التي تُستخدم في هذا النوع من الحروب على العقول:

  • التجنيد الإعلامي للمؤثرين: الأشخاص الذين لديهم متابعون كُثر عبر الشبكات الاجتماعية، وهم قادرون على تشكيل الرأي أو نقل رسائل بشكل موضوعي أو عاطفي. يستخدمون لتعزيز السرد الذي يخدم مصالح الدولة أو الجماعة التي تدير هذه الاستراتيجية.
  • التحكم في الخوارزميات والمحتوى المدفوع: إشراك شركات أو أفراد يملكون نفوذًا على البنى التحتية الرقمية — مثل TikTok، X، وغيرها — من أجل التأكد أن السرد المرغوب فيه يظهر أكثر، ويصل إلى جماهير أكبر، وأن الروايات المضادة يتم تهميشها أو إضعافها.
  • الدبلوماسية الإعلامية العامة: اللقاءات الرسمية وغير الرسمية، البيانات، الحملات الإعلامية التي تستهدف الجمهور الدولي — وليس فقط الحكومات — من أجل كسب تأييد شعبي، وخلق سرد داعم يضغط على الحكومات لاتباع سياسات متوافقة مع هذا السرد.
  • إدارة الأذى الإعلامي والمساومة على الواقع: قبول وجود انتقادات أو إدراك أن الصورة العالمية قد تكون سلبية، ولكن الموازنة بينها وبين المكاسب العسكرية أو الدبلوماسية؛ وبذلك يتم اختيار ما يسمى قبول "الدعاية السيئة" بشرط أن تُعتبر "الكلفة المقبولة" مقابل الانتصار أو الهدف الأكبر. مثال: تصريحات بأن إسرائيل مستعدة أن تتعرض لـ "دعاية سيئة" مقابل الانتصار في حربها مع حماس.
  • الشراكات مع الجهات الأجنبية والمؤسسات الإعلامية الكبرى: الاستثمار في علاقات مع قادة رأي وباحثين وصحفيين ومنظمات غير حكومية لتشكيل تغطية إعلامية إيجابية، أو على الأقل محايدة، تجاه السياسات الإسرائيلية. أيضًا، دفع شركات التقنية والإعلام للعمل تحت إطار يكون فيه الضغط أقل لنشر محتوى ناقد بشكل سلبي.
     

مخاوف قانونية وأخلاقية
هذه الاستراتيجيات تثير عدة تساؤلات:

  • الشفافية: هل الجمهور يدرك أن المحتوى الذي يشاهده مدعوم أو موجه بواسطة جهات سياسية؟ هل هناك وسم "إعلان سياسي" أو "رعاية"؟
  • التأثير على الديمقراطية: قدرة بعض الجهات على توجيه الرأي العام تُضعف النقاش الديمقراطي الحر، خصوصًا إذا كانت بدائل السرد مقيدة أو تُكمّم.
  • حقوق الإنسان والمساءلة: في السياقات التي تُتهم فيها إسرائيل بارتكاب انتهاكات، استخدام الدعاية لمنع الكشف أو التقليل من حجم الجرائم أو ترهيب الناقدين قد يُعتبر جزءاً من التستر عن هذه الانتهاكات.
  • التأثير الطويل الأمد على الثقافة والمجتمع: التربص بالروايات المضادة، التشويه الممنهج للمعارضين، التأثير على التعليم، على الإدراك الذاتي للفلسطينيين، والهوية العربية والإسلامية، على الأقل في أماكن متأثرة بالدعاية.

وفي النهاية فإن الحرب على العقول والسردية هي الآن ركن أساسي من الحروب المعاصرة.
نجاح أي قوة لا يُقاس فقط بالقدرة العسكرية، بل بقدرتها على السيطرة على السرد، على العاطفة، على الأيديولوجيا، على ما يُصبح "مقبولًا" في النقاش العام العالمي.
إسرائيل تحت قيادة نتنياهو باتت تستثمر بكثافة في هذا الميدان، من خلال التواصل الاجتماعي، العلاقات مع المؤثرين، التحكم في الوسائط الرقمية، واستثمار الدعم السياسي والدبلوماسي الدولي.

إذا تُركت هذه المعركة دون مواجهة نقدية، فالسرد الذي يُطوّع التاريخ، يُخفّف الجرائم، يُعطي مبرّرات أخلاقية وسياسية، قد يصبح هو السائد في وعي الجماهير الكبرى — مما يجعل أي مساءلة أخلاقية أو قانونية أو سياسية أشد صعوبة فيما بعد.