في واقعة صادمة تعكس حجم الفساد المالي وضعف الرقابة داخل المؤسسات الحكومية، أحالت شركة مياه الشرب والصرف الصحي بمحافظة الفيوم 57 محصلاً بفرع سنورس إلى التحقيق والنيابة العامة، بعد اكتشاف عجز مالي بلغ 14 مليوناً و600 ألف جنيه في متحصلات استهلاك العملاء تراكم على مدى خمس سنوات كاملة.

 

بداية الفضيحة

القصة بدأت عندما لاحظ مسؤولو الشركة وجود عجز أولي قدره 110 آلاف جنيه. غير أن مراجعة دقيقة لأعمال مشرف عام التحصيل أظهرت أن العجز الحقيقي يفوق ذلك بمراحل، ليصل إلى أكثر من 14 مليون جنيه. عندها سارعت الإدارة بإحالة الملف إلى الشؤون القانونية ثم النيابة العامة، ليتحول إلى قضية رأي عام محلية.

 

أصابع الاتهام

وفقاً لما كشفه المحصلون، فإن التلاعب تم عبر يوميات التوريد التي يشرف عليها رئيس قسم التحصيل ومساعدوه، وليس عبر المحصلين أنفسهم. وأوضحوا أن الجرد الشهري الذي يتم إجراؤه بشكل روتيني لم يُظهر أي عجز طوال السنوات الخمس الماضية، وأنهم كانوا يتسلمون الفواتير شهرياً ويوردونها بشكل منتظم، بما يطابق لوائح الشركة.

لكن المأساة بلغت ذروتها عندما أقدم مشرف عام التحصيل – وهو المتهم الرئيسي في القضية – على الانتحار عقب اكتشاف التلاعب واتهامه المباشر بالاستيلاء على الأموال. هذا التطور الدراماتيكي فتح الباب أمام جدل واسع: إذا كان المسؤول المباشر عن التحصيل قد رحل، فلماذا يُحمَّل 57 موظفاً كامل المسؤولية؟

 

شكوى جماعية للرقابة الإدارية

رداً على إحالتهم للتحقيق، تقدم المحصلون بشكوى رسمية إلى هيئة الرقابة الإدارية ومكافحة الفساد ضد الإدارة المالية والإدارية بالشركة. وأكدوا أن جميع متحصلاتهم كانت تُدخل على حساب الشركة أولاً بأول، وأن الدورات المحاسبية لكل محصل تُغلق شهرياً دون أن يُسجَّل عليهم أي عجز. كما طالبوا بحضور ممثلين عن الجهاز المركزي للمحاسبات لمراجعة المستندات وكشف الحقيقة.

 

نظام التحصيل الإلكتروني يكشف المستور

اللافت أن الفضيحة لم تُكشف إلا في أغسطس 2025، بعد استبدال النظام اليدوي القديم بنظام التحصيل الإلكتروني. النظام الجديد حال دون إمكانية التلاعب باليوميات أو تأجيل التوريد، وهو ما فضح سنوات من التراخي، بل وربما التواطؤ، داخل أقسام الرقابة الداخلية.

هذا التطور يطرح سؤالاً محورياً: كيف يمكن لعجز مالي بهذا الحجم أن يتراكم على مدى خمس سنوات دون أن تُكتشف المخالفة؟ الإجابة تكمن في ضعف منظومة الرقابة، سواء داخل الشركة أو عبر الجهات العليا، ما يعكس هشاشة البنية الرقابية في العديد من المؤسسات الحكومية.

 

الفساد في المؤسسات العامة.. عرض لمرض أعمق

قضية محصلي الفيوم ليست سوى حلقة في سلسلة أطول من قضايا الفساد المالي والإداري التي تتكرر داخل المصالح الحكومية. غياب الشفافية، الاعتماد على أنظمة ورقية تقليدية، وعدم تفعيل أدوات المساءلة، كلها عوامل تجعل من السهل التلاعب بملايين الجنيهات.

لكن الأخطر هو أن هذه المؤسسات تعمل في بيئة سياسية واقتصادية تُدار في ظل هيمنة الأجهزة السيادية والعسكرية، حيث تتركز السلطات والموارد في يد قلة، بينما تُترك الإدارات المحلية لتواجه مصيرها دون دعم حقيقي أو رقابة فعّالة.

 

قوانين هشة بلا مساءلة

من المفترض أن تحمي القوانين العاملين الشرفاء من أن يكونوا كبش فداء لجرائم يرتكبها مسؤولون كبار. لكن الواقع أن هذه القوانين غالباً ما تُستخدم لإلقاء المسؤولية على صغار الموظفين، في حين ينجو الكبار من العقاب.

في حالة الفيوم، يواجه 57 محصلاً تهديدات بالفصل أو إجبارهم على دفع المبلغ محل العجز، رغم أن السجلات تؤكد توريدهم لمستحقاتهم. هذا الوضع يوضح كيف تتحول القوانين من أداة للعدالة إلى وسيلة لـ تبرئة المتورطين الفعليين وتحميل الضحايا المسؤولية.

وتكشف فضيحة عجز 14.6 مليون جنيه في شركة مياه الفيوم عن عمق أزمة الرقابة والشفافية في مصر. فبين محصلين يطالبون ببراءتهم، ومشرف انتحر بعد انكشاف التلاعب، وإدارة تحاول التملص من المسؤولية، يظهر جلياً أن المشكلة ليست في أفراد بعينهم، بل في منظومة كاملة تسمح بالفساد وتغطي عليه.

في ظل هذه الأجواء، تبدو الحاجة ماسة إلى إصلاح جذري للأنظمة الرقابية والقانونية، بعيداً عن الشكلية الحالية التي تُستخدم لحماية الكبار ومحاسبة الصغار. وإلا ستظل أموال المصريين عرضة للنهب، وسيظل المواطن البسيط يدفع الثمن من جيبه ومن ثقته المفقودة في الدولة.