يعيش مزارعو الأرز في مصر هذه الأيام حالة من الغضب والاحتقان بسبب السياسات الحكومية التي وصفوها بـ"المجحفة" بحقهم، حيث تكرر المشهد المعتاد كل موسم حصاد. فبينما ينتظر الفلاحون جني ثمار تعبهم بعد شهور من الزراعة والإنفاق على الأرض، تفاجئهم الحكومة بخفض أسعار شراء الأرز من المزارعين إلى مستويات متدنية لا تغطي حتى تكلفة الإنتاج، ليجدوا أنفسهم مجبرين على البيع تحت ضغط الديون والالتزامات.
خفض الأسعار عند موسم الحصاد
مع بداية موسم الحصاد الحالي، أعلنت الجهات الحكومية تسعيراً منخفضاً للأرز، وصل في بعض المناطق إلى أقل من 15 ألف جنيه للطن، رغم ارتفاع تكاليف الزراعة من تقاوي وأسمدة ومبيدات وديزل للري. هذا السعر، بحسب المزارعين، لا يحقق أي هامش ربح بل يضاعف خسارتهم.
يقول أحد مزارعي الدقهلية: "زرعنا على أمل أن نكسب قوت عيالنا، لكن الحكومة كسرت ظهرنا، كيف نبيع بأقل من التكلفة؟"، مضيفاً أن هذه السياسة تجعل المزارع يكره زراعة الأرز رغم أنه محصول استراتيجي وحيوي.
سياسة شراء قهرية
لا يجد المزارع أمامه خياراً سوى البيع، إذ تتراكم عليه الديون للبنوك الزراعية أو للتجار، كما أن تكاليف المعيشة تضغط على أسرته. الحكومة تستغل هذا الوضع، فتشتري الأرز بأسعار منخفضة من المزارعين الذين لا يملكون رفاهية التخزين أو الانتظار.
يقول فلاح من المنوفية: "إحنا مضطرين نبيع مهما كان السعر، لأن القروض واجبة السداد، ومفيش حد بيمهلنا، والحكومة عارفة ده كويس"، مشيراً إلى أن هذه السياسة تجعل الفلاح الحلقة الأضعف دائماً.
بيع بأعلى من 23 ألف جنيه
المفارقة الكبرى أن الحكومة، بعد جمع كميات ضخمة من الأرز من المزارعين، تقوم بطرحه في الأسواق لاحقاً بأسعار مرتفعة، وصلت خلال الأشهر الماضية إلى أكثر من 23 ألف جنيه للطن، لتحقق أرباحاً هائلة على حساب المزارع والمستهلك معاً.
هذا الفارق الكبير بين سعر الشراء من الفلاح وسعر البيع في الأسواق أثار استياءً واسعاً، حيث اعتبره البعض نوعاً من "السمسرة الرسمية" التي لا تعود بالنفع على المنتج الحقيقي، بل تزيد من أرباح الحكومة والتجار الكبار فقط.
ديون تثقل كاهل الفلاحين
الواقع أن معظم المزارعين يمولون موسم الزراعة عبر الاستدانة، سواء من البنوك أو من التجار، على أمل تسديد هذه الالتزامات بعد بيع المحصول. لكن مع هذه الأسعار المنخفضة، يجد المزارع نفسه غير قادر على سداد ديونه، ما يعرضه للحبس أو فقدان أرضه.
يقول أحد المزارعين من كفر الشيخ: "مشاكلنا مش بس في الخسارة، إحنا مهددين بالحبس لو ما دفعناش. الحكومة بتكسب وإحنا بنخسر"، موضحاً أن هذا الوضع يدفع الكثيرين للتفكير في ترك زراعة الأرز تماماً.
أزمة تهدد الأمن الغذائي
خبراء الاقتصاد الزراعي يحذرون من أن هذه السياسة ستؤدي على المدى الطويل إلى عزوف المزارعين عن زراعة الأرز، وهو ما يهدد الأمن الغذائي المصري في واحد من أهم المحاصيل الاستراتيجية.
فالأرز ليس فقط سلعة أساسية للمواطن، بل أيضاً أحد أعمدة الاستقرار الاجتماعي في الريف.
ويرى الدكتور محمود الشناوي، خبير الاقتصاد الزراعي، أن استمرار هذه السياسات يخلق فجوة بين الدولة والمزارعين، ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المستهلك في النهاية.
ويضيف: "الحل يكمن في وضع تسعير عادل يراعي تكلفة الإنتاج ويضمن هامش ربح معقول للفلاح، بدلاً من استغلال ضعفه وتحقيق أرباح على حسابه".
صرخات بلا استجابة
ورغم الشكاوى المتكررة من الجمعيات الزراعية والمزارعين عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، إلا أن الاستجابة الحكومية ما زالت محدودة. فبدلاً من تبني حلول جذرية، تكتفي الجهات المسؤولة بتبريرات ووعود مؤجلة، في وقت يزداد فيه الغضب الشعبي وتتضاعف الأزمة مع كل موسم.
في المحصلة، يظل مشهد مزارعي الأرز وهم يصرخون من ظلم الأسعار دليلاً على خلل عميق في السياسة الزراعية بمصر، حيث تتحول الحكومة من داعم للفلاح إلى منافس شرس يشتري بخسارة ويبيع بربح، بينما يبقى الفلاح المصري، الذي يفترض أن يكون عمود الأمن الغذائي، الضحية الأولى والأخ