مرة أخرى، يجد المصريون أنفسهم أمام خبر جديد عن قرض خارجي يضاف إلى سلسلة طويلة من القروض التي أثقلت البلاد وأرهقت أجيالها القادمة. فقد كشف مسؤول حكومي أن مصر تسعى لاقتراض 600 مليون يورو من بنك الاستثمار الأوروبي لتمويل مشروعات تتعلق بخطوط نقل الكهرباء وربط محطات الطاقة المتجددة بالشبكة القومية. ورغم أن العنوان يبدو تنمويًا وبراقًا، إلا أن الخلفية المظلمة تكشف أن الأمر ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل الإفراط في الاستدانة دون وجود خطة واضحة لضمان سداد هذه الالتزامات سوى عبر بيع أصول الدولة ومقدراتها.

 

مشروع جديد... أم قرض لتغطية العجز؟

الخطاب الرسمي للحكومة يروج أن القرض مخصص لتمويل توسعة خطوط الكهرباء وربط الطاقة المتجددة بالشبكة القومية، وهو ما يبدو هدفًا مشروعًا ومهمًا لدولة تواجه ضغوطًا متزايدة على بنيتها التحتية. لكن الواقع يؤكد أن مصر اقترضت عشرات المليارات خلال السنوات الأخيرة تحت شعارات مماثلة، ومع ذلك لم يلمس المواطن تحسنًا ملموسًا في الخدمات أو البنية التحتية. بل على العكس، تفاقمت أزمة الكهرباء في صيف 2024، وامتدت الانقطاعات لساعات طويلة، ما يؤكد أن القروض لا تترجم بالضرورة إلى مشروعات تنموية حقيقية بقدر ما تُستهلك في سداد التزامات سابقة أو سد عجز متكرر.

ومن جهته، علّق الدكتور وائل النحاس، الخبير الاقتصادي، قائلاً: "الحكومة باتت تستخدم القروض كمسكنات لتجاوز أزمات مالية آنية، لا كاستثمارات حقيقية تعود بالنفع على المواطن. وهذا النهج يكرر نفسه في كل مرة مع عناوين براقة عن مشروعات تنموية لا يراها الناس على الأرض."

 

اقتصاد يعيش على "الديون"

بحسب بيانات البنك المركزي، تجاوز الدين الخارجي لمصر 165 مليار دولار مع نهاية 2024، مقارنة بـ 43 مليار دولار فقط عام 2013. هذه القفزة غير المسبوقة تعكس اعتماد النظام بشكل كامل على القروض كأداة لإدارة الاقتصاد بدلًا من الاعتماد على الإنتاج أو الاستثمار المحلي. الخطر هنا أن معظم هذه القروض قصيرة الأجل أو ذات فوائد مرتفعة، ما يعني أن الدولة تدخل في حلقة مفرغة من الاقتراض لسداد ديون قديمة.

ويرى الدكتور حسن هيكل، محلل الأسواق المالية، أن: "تضاعف الدين الخارجي بهذا الشكل يُعد مؤشر خطر على السيادة الاقتصادية. مصر لم تعد تقترض للتوسع، بل لتسديد التزامات قائمة، وهو ما يدخلها في دوامة الاستدانة المستمرة."

 

بيع الأصول تحت شعار "الطروحات"

ولأن خدمة الدين تلتهم معظم الموازنة، لم يجد النظام سوى اللجوء إلى بيع أصول الدولة تحت ما يسمى "برنامج الطروحات الحكومية". فشركات رابحة وقطاعات استراتيجية مثل الموانئ، محطات الكهرباء، وشركات الألومنيوم والإسمدة، أصبحت معروضة للبيع أو الشراكة لصالح مستثمرين أجانب، وعلى رأسهم الإمارات والسعودية. وهكذا يتحول القرض الجديد إلى مقدمة لبيع أصول إضافية لسداد التزامات لن تتوقف، ما يضع السيادة الاقتصادية المصرية على المحك.

وعكست تلك الرؤية ما أشار إليه الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، الذي أوضح: "برنامج الطروحات الحكومية ليس استثمارًا بقدر ما هو تصفية اضطرارية لأصول الدولة. الربط بين القروض الجديدة والطروحات بات واضحًا: الدولة تستدين ثم تبيع الأصول لسداد فوائد وديون مستحقة."

 

فخ الطاقة: هل مصر بحاجة فعلية لهذا القرض؟

من المثير للتساؤل أن الحكومة تبرر القرض بربط محطات الطاقة المتجددة بالشبكة القومية، بينما يشير خبراء إلى أن مصر بالفعل لديها فائض في إنتاج الكهرباء يتجاوز حاجتها، ومع ذلك يعاني المواطن من الانقطاعات بسبب ضعف الصيانة وسوء الإدارة. بمعنى آخر، الأزمة ليست في نقص التمويل أو غياب المشروعات، بل في غياب الكفاءة والشفافية. فهل تحتاج مصر حقًا لاقتراض 600 مليون يورو إضافية، أم أن الهدف مجرد توفير سيولة عاجلة؟

وأضاف الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية: "الفائض في إنتاج الكهرباء حقيقة مثبتة بالأرقام، لكن المشكلة في البنية التحتية والإدارة. الحديث عن ربط محطات جديدة لا يبرر اقتراض مئات الملايين، بل يكشف سوء تخطيط."

 

الرأي الاقتصادي: تحذيرات متكررة

خبراء اقتصاديون حذروا مرارًا من أن سياسة الإفراط في الاستدانة ستقود حتمًا إلى فقدان السيطرة على القرار الاقتصادي. وفي هذا السياق، قال الدكتور أحمد ذكر، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة: "الديون الخارجية تجاوزت الخطوط الحمراء، وأصبحت الحكومة تعتمد عليها بدلًا من الإصلاح الحقيقي. ما نراه اليوم هو تسييل للأصول الوطنية تحت مسمى الاستثمارات، بينما الحقيقة أنها بيعات اضطرارية لسداد فوائد الديون."