رحلت الطفلة آيات، آخر مصابي الحادث الإقليمي المعروف إعلاميًا بـ"حادث بنات العنب"، بعد معاناة استمرت أكثر من شهرين داخل العناية المركزة.
خبر وفاتها أعاد جراح أسر فقدت فلذات أكبادها، وأعاد فتح ملف الإهمال المتكرر في الطرق والمواصلات بمصر، حيث تتحول الأخطاء المتكررة إلى كوارث متتابعة، بلا محاسبة حقيقية ولا عدالة منصفة لأرواح الضحايا.
حادث مأساوي ووجع لا ينتهي
الحادث الذي هزّ قرية كفر السنابسة بمحافظة المنوفية لم يكن الأول، ولن يكون الأخير، في سلسلة طويلة من الكوارث المرورية.
بنات صغيرات خرجن في صباح يوم عادي، على أمل أن يعدن سالمات إلى بيوتهن، لكن الإهمال وسوء إدارة الطرق والمركبات حوّل حياتهن إلى مأساة.
معظم الضحايا فارقوا الحياة في وقت مبكر، فيما بقيت آيات على سرير العناية المركزة، تصارع الموت لشهرين كاملين، قبل أن تلحق بزميلاتها ضحايا الحادث.
لا حساب ولا عقاب
الصدمة الأكبر ليست في الحادث ذاته، بل في غياب المحاسبة.
منذ وقوع الحادث، لم يجرؤ أي مسؤول على الاعتراف بالتقصير، ولم تعلن وزارة النقل أو الداخلية عن خطوات حقيقية لمعالجة الخلل المزمن.
وكأن دماء هؤلاء الأطفال مجرد أرقام تُضاف إلى إحصائيات الحوادث اليومية.
في المقابل، خرج وزير النقل كامل الوزير بتصريح صادم يطالب فيه الناس بعدم الحديث عن الوزارة أو مهاجمة المسؤولين، بحجة أنهم "عندهم بيوت وبيزعلوا"!
تصريح يعكس استخفافًا بدماء الضحايا، وإصرارًا على الهروب من المسؤولية بدل مواجهتها.
نزيف مستمر على الطرق المصرية
الإحصاءات الرسمية نفسها تكشف حجم الكارثة.
وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تتجاوز أعداد الحوادث المرورية عشرات الآلاف سنويًا، فيما يُقتل الآلاف ويصاب عشرات الآلاف بجروح متفاوتة.
هذه الأرقام تعكس أن الطرق المصرية واحدة من الأكثر خطرًا في المنطقة، نتيجة غياب الصيانة والرقابة، وتفشي العشوائية في تنظيم النقل والمواصلات.
الأمر لا يقتصر على حادث "بنات العنب" وحده، فقد سبقته عشرات الكوارث، مثل انقلاب أتوبيسات مدرسية، وحوادث قطارات أودت بحياة المئات.
كلها كوارث تتكرر بنفس الأسباب: إهمال حكومي، بنية تحتية مهترئة، غياب الرقابة، وانعدام المحاسبة.
خبراء يحمّلون الحكومة المسؤولية
يرى خبراء النقل أن استمرار هذه الكوارث ناتج عن غياب استراتيجية حقيقية للسلامة المرورية.
الدكتور عصام شرف، أستاذ هندسة الطرق ورئيس الوزراء الأسبق، حذّر مرارًا من خطورة غياب التخطيط السليم لشبكة الطرق، مشيرًا إلى أن التوسع في إنشاء طرق جديدة لا قيمة له إذا لم يواكبه تطوير في نظم الأمان والرقابة.
أما الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، فربط بين تزايد الحوادث وتوجه حكومة الانقلاب لإنفاق المليارات على مشروعات عملاقة "استعراضية"، بينما تهمل الإنفاق على البنية التحتية الأساسية مثل الطرق الإقليمية وخدمات النقل العام التي يستخدمها الفقراء يوميًا.
الغضب الشعبي يتصاعد
على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر مصريون عن غضبهم من رحيل آيات، معتبرين أن ما يحدث "قتل بالإهمال".
كتب أحدهم: "ماتت آيات والبنات قبلها وبعدها، ومفيش حد بيتحاسب... دمهم عند ربنا، وهو المنتقم".
بينما تهكم آخر على تصريحات الوزير قائلًا: "الناس عندها بيوت وبتزعل... واللي ماتوا ماكانش عندهم بيوت وأهالي؟".
وعلقت الناشطة رانيا الخطيب: "الله يرحمها، وماتت البنات، ومات قبلهم كتير وبعدهم كتير، ومحدش بيتحاسب، وطالع كامل الوزير يقول محدش يتكلم عنّا عشان عندنا بيوت وبيزعلوا!! ربنا المنتقم".
الله يرحمها وماتت البنات ومات قبلهم كتير وبعدهم كتير ومحدش بيتحاسب وطالع كامل الوزير يقول محدش يتكلم عننا عشان عندنا بيوت وبيزعلوا !! ربنا المنتقم https://t.co/HjFu6RZ4yT
— Rania Elkhateeb (@ElkhateebRania) September 6, 2025
وكتب الحقوقي أحمد الشريف: "ربنا يرحمها ويجعل مثواها الجنة. ضحية الإهمال وسوء الإدارة والحكم".
وقال الشاذلي: "ربنا يُمهل ولا يُهمل، وعند الله تجتمع الخصوم".
https://x.com/MElshazly66/status/1964294123227148704
وأشارت دينا حسن: "لغاية النهاردة ناس بتموت على طرق، آخرهم حادثة كبيرة في التجمع الخامس، وكامل باشا قاعد لغاية آخر مواطن يموت على الطرق بتاعتهم".
https://x.com/DinaHas56523173/status/1964296007505563651
هذا الغضب الشعبي يعكس شعورًا عميقًا بأن الدولة تتعامل مع أرواح الناس كأرقام هامشية، فيما تُعطى الأولوية لتلميع صورة المسؤولين وتبرير إخفاقاتهم.
دماء لن تُنسى
رحيل آيات لم يكن مجرد فقد لطفلة صغيرة، بل صار رمزًا لفشل دولة في حماية أبنائها.
كل دقيقة تمر دون محاسبة حقيقية تعني أن دماء الضحايا تذهب هدرًا، وأن مأساة جديدة تنتظر ضحايا آخرين.
اليوم، يقف المصريون أمام سؤال مرير: إلى متى ستظل الطرق تحصد أرواح الأبرياء بلا رادع ولا حساب؟
وإلى متى سيظل المسؤولون يتحدثون عن "زعلهم"، بينما تُدفن بنات العنب وأمثالهن تحت تراب الإهمال؟
إن دم آيات وصديقاتها سيبقى شاهدًا على أن مصر تعيش مأساة حقيقية، وأن الحكومة التي ترفض المحاسبة إنما تتحمل المسؤولية الكاملة أمام الله والتاريخ والشعب.