في لحظة كان من المفترض أن يتحدث فيها رأس الدولة أو المتحدث العسكري بوضوح، خرج ضياء رشوان، رئيس هيئة الاستعلامات، ليقول إن "إسرائيل لا ترى في المنطقة من جيوش يمكن أن تدير حربًا نظامية مباشرة إلا الجيش المصري"، مؤكدًا أن حرب 1973 كانت نزهة مقارنة بما هو متاح اليوم من أسلحة وتكنولوجيا.
تصريح لافت في قوته، لكن المثير أنه صدر من شخص بعيد عن القرار العسكري والسياسي المباشر، بينما عبد الفتاح السيسي والمتحدث العسكري التزما الصمت.
هذا الصمت لم يعد مجرد تفصيل بروتوكولي، بل صار عنوانًا لسياسة كاملة: سياسة تترك الملفات الكبرى في يد متحدثين وإعلاميين، بينما يغيب المفترض أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المشهد.
وهنا يبرز سؤال مشروع: إذا كان الجيش المصري هو الرقم الصعب في معادلة الردع، فلماذا لا يعلن السيسي ذلك بنفسه؟ ولماذا جاء التلويح بالقوة بعد ساعات من إعلان نتنياهو تعليق صفقة الغاز مع مصر؟
تصريحات رشوان
قال رشوان إن الجيش المصري يُعد القوة العسكرية النظامية الوحيدة في المنطقة القادرة على مواجهة إسرائيل، مشيرًا إلى أن مصر، رغم عدم سعيها للحرب، تحافظ على جاهزية عالية لحماية أمنها القومي.
ولفت رشوان، في حوار له مع الإعلامي معتز عبد الفتاح ببرنامج «استراتيجيا» على قناة «المشهد»، إلى الدور الحاسم للجغرافيا في تشكيل التوازنات الاستراتيجية بين الدول.
وأوضح رشوان أن المسافة بين العريش وتل أبيب لا تتجاوز 100 كيلومتر، في حين تبلغ الحدود المصرية الإسرائيلية 240 كيلومترًا، منها 14 كيلومترًا مع قطاع غزة، مضيفًا أن إيلات، الواقعة على بعد 200 متر فقط من الحدود المصرية، أصبحت ملجأً للنازحين من غلاف غزة وشمال إسرائيل.
وأكد رئيس الهيئة العامة للاستعلامات على الفارق الجغرافي الكبير بين مساحة فلسطين التاريخية، التي تبلغ 27 ألف كيلومتر مربع، وشبه جزيرة سيناء التي تزيد مساحتها على 66 ألف كيلومتر مربع، مشيرًا إلى أن هذا الفارق يعزز الموقف الاستراتيجي لمصر وقدرتها على تحمل التحديات العسكرية والسياسية.
وأضاف رشوان: «إسرائيل، التي تحتاج إلى 5 فرق عسكرية للسيطرة على قطاع غزة الصغير، ستجد صعوبة بالغة في مواجهة جيش نظامي قوي مثل الجيش المصري».
خبراء يعلقون
أستاذ العلوم السياسية حسن نافعة يقول إن النظام يحاول التملص من المسؤولية. "استخدام رشوان كواجهة رسالة واضحة أن السيسي لا يريد أن يُحمّل نفسه أو الجيش التزامات علنية أمام إسرائيل أو المجتمع الدولي."
الناشط عبد الله السناوي يرى أن غياب السيسي يضعف الرسالة. "حين يتحدث رئيس هيئة الاستعلامات بدلًا من الرئيس أو المتحدث العسكري، فإننا أمام سلطة تختبئ خلف ستار الإعلام بدل ممارسة دورها الطبيعي كقيادة سياسية وعسكرية."
الكاتب عماد الدين حسين يربط بين التصريح وتعليق صفقة الغاز. "القاهرة أرادت أن ترد بشكل غير مباشر على نتنياهو. لكن حين يكون الرد عبر رشوان وليس عبر القائد الأعلى، يصبح أثره أقرب إلى محاولة حفظ ماء الوجه أمام الداخل أكثر منه رسالة ردع للخارج."
إبراهيم عيسى انتقد ازدواجية الخطاب الرسمي. "النظام يطلب من الشعب أن يثق في صمت السيسي، بينما يطلق رسائل كبرى عبر واجهات ثانوية. هذه طريقة للهروب من مواجهة الرأي العام داخليًا، والتملص من المسؤولية خارجيًا."
محمد المنشاوي، الخبير في الشؤون الأميركية، يرى أن الرسالة موجهة أساسًا لواشنطن، لكن عبر قناة "آمنة". ويضيف: "التصريح لو خرج من السيسي نفسه لكان له أثر مختلف في البيت الأبيض وتل أبيب. أما خروجه من رشوان فمجرد بالون اختبار."
عمار علي حسن، الكاتب والروائي، وصف الأمر بـ"سياسة التهديد بالوكالة". "النظام يريد التلويح بالقوة العسكرية، لكنه يخشى أن يُفهم ذلك كالتزام حقيقي. لذلك دفع رشوان للتصريح، بحيث يمكن التراجع بسهولة إذا تغيرت الظروف."
ما وراء الرسالة
تصريح رشوان ليس مجرد جملة عابرة، بل هو انعكاس لمعادلة مأزومة: نظام يفضل المناورة الإعلامية على المواجهة الصريحة.
فبدل أن يعلن السيسي موقفًا قويًا بعد إهانة اقتصادية واضحة من نتنياهو بتعليق صفقة الغاز، لجأ إلى تفويض موظف إعلامي لإطلاق تهديد غير مباشر. النتيجة أن الرسالة بدت ضعيفة، وأظهرت أن النظام يخشى من أي مواجهة حقيقية مع إسرائيل، مهما كان شكلها.
وختامًا، فتصريحات ضياء رشوان، بدل أن تعزز صورة مصر كقوة عسكرية كبرى، كشفت هشاشة خطاب النظام.
فالمفارقة أن مصر تمتلك الجيش الأقوى في المنطقة، لكن قيادتها السياسية ترفض أن تقول ذلك علنًا.
وبينما يتوارى السيسي خلف رجاله الإعلاميين، تبقى صورة النظام مهتزة: لا هو قادر على مواجهة إسرائيل بجدية، ولا هو مستعد للاعتراف بعجزه أمام الداخل.