في ذكرى المولد النبوي، صدح شيخ الأزهر بكلمات مؤثرة عن تجويع أطفال غزة، ووصف كيف التهم الجوع أجسادهم النحيلة وحوّلهم إلى ضحايا أبرياء لحصارٍ ظالم. غير أن وقع هذه الكلمات بدا صادمًا ومتناقضًا، إذ ألقاها أمام عبد الفتاح السيسي، الحاكم الذي يُعَدّ أحد أبرز المحاصرين لغزة وشريكًا مباشرًا في سياسة تجويعها عبر إغلاق المعابر وعرقلة دخول الغذاء والدواء.
فكيف يستقيم أن تُقال كلمات عن الرحمة والعدل والإنسانية في حضرة من حرم الملايين من أبسط مقومات الحياة؟ وكيف يُستساغ أن تُذرف دموع على أطفال غزة في الوقت الذي يساهم فيه النظام المصري في خنق أنفاسهم؟ صرخة ضد الجوع المنظّم
أرقام تشير إلى مجاعة فعلية
تقارير منظمات أممية ووكالات صحية مستقلة أكدت أن قطاع غزة أصبح يعيش فعلاً تحت وطأة مجاعة؛ مؤشرات سوء التغذية ارتفعت إلى مستويات تهدد حياة الأطفال، ووفاة عشرات بسبب مضاعفات نقص الغذاء باتت شبه روتينية.
تم توثيق حالات اضطرابات صحية خطيرة ناتجة عن "هزال عميق"، وارتفاع ملحوظ في وفيات الأطفال دون الخامسة.
المؤسسات الصحية أكّدت أن غزة تجاوزت مرحلة نقص الغذاء، ودخلت بالفعل مرحلة انعدام الأمن الغذائي، وهو ما يمثل أول تصنيف رسمي من نوعه في المنطقة.
الأرقام تتحدث
أكثر من نصف مليون شخص في غزة يعيشون حاليًا في ظروف «مجاعة فعلية» تكشفها التصنيفات الأممية، وتمّ إعلانها رسميًا من قبل منظمة الأغذية والزراعة UNICEF وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية.
وبنهاية سبتمبر، من المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 640,000 شخص يعيشون في مستوى كارثي من انعدام الأمن الغذائي.
إضافة إلى ذلك، يُعاني أكثر من 1.14 مليون شخص من الجوع الشديد، و396,000 آخرون في وضع أزمة غذائية مزمن.
في يوليو وحده، تم تسجيل وفاة 24 طفلًا دون سن الخامسة بسبب سوء التغذية الحاد — أي أنهم شكّلوا 85% من وفيات سوء التغذية للأطفال في غزة ذلك العام.
في مايو، تم نقل 5,119 طفلًا يتراوح عمرهم بين 6 أشهر وخمس سنوات لتلقي العلاج من سوء التغذية، بينهم 636 حالة خطيرة. وبمعدل يومي، دخل 112 طفلًا لتلقي الإنقاذ الغذائي.
تُظهر البيانات أن 39% من السكان يقضون أيامًا دون طعام مطلقًا.
منذ بداية النزاع، تشير إحصائيات إلى أن نتيجة المجاعة وتردّي الخدمات الطبية تسببّت بموت آلاف، حيث يُقدّر أن 62,000 شخصًا على الأقل لقوا حتفهم جوعًا أو بسبب عدم توفر الرعاية الغذائية. ومن بين هؤلاء العدد الأكبر من الأطفال.
كما وثّقت تقارير أن 310 أشخاص، بينًهم 119 طفلًا، توفّوا نتيجة الجوع خصيصًا منذ بداية الحصار.
مشاهد ميدانية لم يتحدث عنها أحد
وسائل الإعلام المحلية والدولية نقلت مشاهد وجع مروعة: أطفال هزيلون، وعائلات ترى أبنائها يحتضرون في أجنحة المستشفيات، وأخرى تسعى بصعوبة شديدة لقطرة ماء أو لقمة الطعام.
مشاهدٌ انتشرت عبر الفيديوهات تُظهر قوافل الموتى الذين يُجلبون إلى الأجنحة في حالات متقدمة من الجوع والمرض.
خطاب القمع الدبلوماسي
حديث شيخ الأزهر وجد صدًى في بيئة ماضية السياسة العالمية بالغضب، خصوصًا أن مجاعة غزة تأتي أثناء ترتيبات دبلوماسية ضخمة تشمل ملفات حقوق إنسان، لكنّ الواقع كشف أن الضغط الدولي أخفق في وقف استخدام الجوع كسلاح.
على الرغم من الدعوات الأممية، ما زال الحصار يمنع دخول الغذاء والدواء والوقود بحرية، بينما الإمداد الغذائي يتم عبر قنوات محدودة يصعب الاعتماد عليها لإنقاذ حياة مواطنين غارقين في الاحتياجات الأساسية.
الإدانة دون حلول رسمية
استنكر الطيب هذا الوضع بشكل نادر عبر الخطب الدينية الرسمية، لكن تناقض ذلك مع صمت كثير من الخطابات الرسمية التي يكررها النظام في القاهرة.
فبينما يُعلن الرئيس وغيره عن دعم الشعب الفلسطيني، تبقى كلماتهم بلا تأثير مقابل سياسة صارمة تواصل إبقاء غزة في هذه المعاناة الإنسانية.
إن ما قاله شيخ الأزهر عن مأساة غزة يحمل في جوهره صدقًا إنسانيًا لا شك فيه، لكن مأساة الشعب الفلسطيني لا تتحمل هذا النفاق السياسي الذي يجعل الجلاد جالسًا في الصفوف الأولى متظاهرًا بالتعاطف.
أطفال غزة لا يحتاجون خطبًا ولا مراثي، بل يحتاجون وقف الحصار وفتح المعابر وإنقاذ ما تبقى من حياتهم.
والدرس الأهم في ذكرى مولد النبي أن الحق لا يُجزّأ، وأن من يتواطأ في تجويع الناس لا يملك أن يتحدث عن آلامهم، مهما ارتدى من ثوب الدين أو السلطة.