في حادث مأساوي جديد يضاف إلى سلسلة المآسي التي تشهدها مياه البحر المتوسط، لقي 21 شخصًا مصرعهم بينهم 8 مصريين و2 سودانيين، بعد غرق مركب كان يقل 79 مهاجرًا غير شرعي قبالة سواحل مدينة طبرق الليبية.
الحادث وقع في الساعات الأولى من صباح الجمعة، حين انقلب المركب الخشبي الصغير نتيجة الأحوال الجوية السيئة وحمولته الزائدة، في مشهد يختصر رحلة الموت التي يسلكها مئات الفقراء سنويًا بحثًا عن حياة أفضل.
رحلة محفوفة بالموت
المركب، وفق روايات الناجين، انطلق من شاطئ غير مراقب بالقرب من مدينة طبرق في محاولة للوصول إلى الشواطئ الإيطالية.
لكن الرحلة لم تكتمل؛ إذ انقلب القارب بعد ساعات من الإبحار، ليلقى العشرات مصيرهم في قاع البحر، بينما تمكن خفر السواحل الليبي وبعض الصيادين المحليين من إنقاذ عدد محدود من الركاب.
أحد الناجين المصريين قال: "الموت كان أهون من الحياة اللي عايشينها… كنا بنحلم نوصل لإيطاليا، لكن البحر كان أسرع".
ضحايا من كل الجنسيات… لكن الغالبية مصريون
الحادث أظهر مرة أخرى أن المصريين باتوا من بين الجنسيات الأكثر تمثيلًا في قوارب الهجرة غير الشرعية المنطلقة من ليبيا.
من بين الضحايا 8 مصريين، إضافة إلى 2 سودانيين والباقي من جنسيات إفريقية أخرى.
هذا التنوع يعكس أن الأزمة لم تعد تخص بلدًا بعينه، بل صارت جزءًا من مأساة إقليمية أكبر، حيث تتدفق أفواج الفقراء إلى سواحل ليبيا بحثًا عن قارب ينقلهم إلى أوروبا.
حصيلة مأساوية منذ 2024
بحسب بيانات منظمات إنسانية، فإن حوادث غرق المهاجرين المصريين شهدت تصاعدًا ملحوظًا منذ بداية 2024.
فقد لقي أكثر من 500 مهاجر مصري مصرعهم خلال العام الماضي في مياه المتوسط، معظمهم انطلقوا من السواحل الليبية.
وفي الأشهر الثمانية الأولى من 2025، قُتل ما لا يقل عن 180 مصريًا في حوادث مماثلة.
هذه الأرقام، على الرغم من فداحتها، لا تشمل المفقودين الذين لم يتم العثور على جثامينهم، ما يجعل العدد الحقيقي أكبر بكثير.
الهروب من جحيم الداخل
يقول محللون إن تصاعد الهجرة غير الشرعية بين المصريين يعكس انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
فمع معدلات البطالة المتفاقمة، وارتفاع الأسعار الجنوني، وتآكل الطبقة الوسطى، يجد الكثير من الشباب أنفسهم بلا أفق أو مستقبل داخل مصر.
الناشط الحقوقي محمد سلطان علق على الحادث قائلًا: "حين يحكمك نظام لا يرى الشعب إلا عبئًا، تصبح قوارب الموت هي الخيار الأخير للنجاة… حتى لو كان الثمن حياتك".
الفقر كدافع أساسي
المفارقة المؤلمة أن معظم هؤلاء المهاجرين يعرفون تمامًا مخاطر الرحلة، لكنهم يختارون خوضها لأن الحياة في الداخل باتت أشبه بالموت البطيء.
راتب الحد الأدنى في مصر، الذي لا يتجاوز بضعة آلاف من الجنيهات، لم يعد يكفي لتغطية أبسط احتياجات الأسرة، في ظل تضخم قياسي وصل إلى مستويات غير مسبوقة.
أحمد، شقيق أحد الضحايا، قال: "أخويا كان بيشتغل 12 ساعة في اليوم علشان يوفر أكل لعياله، ومع ذلك كان بيستلف آخر الشهر… لما جاتله فرصة يسافر من ليبيا، ما فكرش مرتين".
ليبيا… بوابة الموت للمصريين
منذ تشديد الرقابة على السواحل المصرية، تحولت ليبيا إلى الوجهة الرئيسية لانطلاق قوارب الهجرة غير الشرعية للمصريين.
الفوضى الأمنية في ليبيا، وضعف الرقابة على بعض المناطق الساحلية، جعلاها بيئة مثالية لشبكات التهريب التي تستغل معاناة الفقراء لتحقيق أرباح طائلة.
تتقاضى هذه الشبكات مبالغ تتراوح بين 3 و5 آلاف دولار عن كل مهاجر، في رحلة غالبًا ما تنتهي إما بالغرق أو الاعتقال.
الوعود الحكومية… والواقع المرير
على الرغم من تصريحات الحكومة المصرية المتكررة عن مكافحة الهجرة غير الشرعية، وتأكيدها نجاحها في "تصفير" هذه الظاهرة منذ سنوات، فإن الأرقام والحوادث تكشف عن عكس ذلك.
فالمصريون ما زالوا يموتون في عرض البحر، وما زالت القوارب تنطلق من ليبيا محملة بهم، وهو ما يكشف أن المعالجة الأمنية وحدها لا تكفي، وأن جذور الأزمة تكمن في الداخل.
ردود الفعل الغاضبة
مواقع التواصل الاجتماعي امتلأت بموجة غضب وحزن بعد انتشار أخبار الحادث، حيث كتب الصحفي المعارض بلال فضل: "لا يسع المصريين إلا أن يهربوا من جحيم السيسي… حتى لو كان البحر هو قبرهم".
وغرّد الناشط الحقوقي هيثم أبو خليل: "كل قارب يغرق هو شهادة إدانة للنظام… مصر أصبحت طاردة لشبابها".
جرح لا يلتئم
أسر الضحايا الذين تم التعرف على هوياتهم يعيشون الآن أيامًا من الألم، في انتظار استلام جثامين أبنائهم. كثير منهم لا يعرفون حتى أين ستدفن الجثث، أو إذا كانت ستصل أصلًا.
أم أحد الضحايا المصريين قالت وهي تبكي: "ابني راح علشان يجيب لقمة عيش، رجعولي في كفن… ومش عارفين حتى نودعه".
وفي النهاية فإن حادثة طبرق ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، طالما بقيت الأسباب التي تدفع الشباب إلى ركوب البحر قائمة: الفقر، القمع، انعدام الأمل. ففي بلد يضيق بأبنائه، يصبح البحر هو المنفذ الوحيد، حتى لو كان ثمنه الحياة نفسها.
كما إن استمرار هذه المآسي هو دليل على فشل منظومة الحكم في توفير أدنى مقومات العيش الكريم، ونجاحها فقط في دفع أبنائها إلى البحث عن الأمل في عرض البحر… أو في قاعه.