في خطاب حديث خلال تفقده للكلية الحربية، قال عبد الفتاح السيسي مخاطبًا مصريين وعربًا وغيرهم:"يا مصري ويا عربي ويا سعودي ويا قطـري ويا إماراتي ويا سوري ويا كويتي ويا إنسان، انتبهوا، مش كل اللي بتشوفوه وتسمعوه تصدقوه وكمان تتحركوا وراه."
تصريح يبدو من وجهة نظره بمثابة تحذير من الأخبار المزيفة أو ما يُوصف بـ"الشائعات" أو "الأكاذيب"، لكنه في الحقيقة يحمل بعدًا أكبر: محاولة تكميم الأفواه، وبث رسالة ضمنية بأن هناك مصدرًا وحيدًا للحقيقة، وهو هو شخصيًا ومنظومته السياسية، وكل من يخالفه الرأي يُعتبر مخادعًا أو مضللاً.
هذه النظرة الاحتكارية للحقيقة والقيادة ليست جديدة على نظام السيسي، لكنها تتناقض بشكل صارخ مع الواقع الذي يعيش فيه المصريون والعرب، حيث تتكدس الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويزداد الفشل في ملفات حيوية داخلية وخارجية.
أولا: تحليل الخطاب وغياب الديمقراطية
تصريح السيسي يستبطن فكرة أن هناك "حقائق رسمية" موحدة، وأن كل صوت خارج هذه الحقيقة هو خائن أو مضلل. هذه الفكرة تنم عن عقلية سلطوية ترى نفسها وحدها صاحبة الحكمة المطلقة، وتعتبر أي نقد أو مخالفة تهديدًا يجب قمعه.
في بلد يعيش فيه أكثر من 60 ألف معتقل سياسي، ووسائل إعلام تسيطر عليها الدولة بالكامل، فإن هذا الخطاب ليس مجرد تحذير، بل أمر مباشر بإغلاق قنوات الحوار والنقاش، وفرض ثقافة الطاعة العمياء.
النظام يستثمر هذه العقلية لتبرير القمع السياسي، وعدم السماح لأي شكل من أشكال المعارضة أو النقد الحقيقي، معتمدًا على خطاب يخدم "الاستقرار" بحسب تعريفه، لكنه في الحقيقة يقتل الحياة السياسية والديمقراطية.
ثانيا: فشل في الملفات الداخلية
1. الاقتصاد وغلاء المعيشة
منذ وصول السيسي إلى السلطة، شهد الاقتصاد المصري تدهورًا حادًا في قدرة المواطن على تلبية حاجاته الأساسية. ارتفاع أسعار السلع الغذائية، تراجع قيمة الجنيه، زيادة معدلات الفقر والبطالة كلها مؤشرات واضحة على إخفاقات متتالية في إدارة الملف الاقتصادي.
رغم الوعود المتكررة بالاستقرار والنمو، فإن الغالبية العظمى من المصريين تشعر بانخفاض مستوى معيشتها، وازدياد الضغوط اليومية.
2. حقوق الإنسان والقمع
استمرار حملات الاعتقال التعسفي، وتدهور أوضاع حقوق الإنسان، والتضييق على الحريات الأساسية، كلها تدل على فشل النظام في بناء دولة قانون ومؤسسات قوية. هذه السياسات تزيد من الشعور باليأس والقمع، وتبعد مصر عن مسار التنمية الحقيقية.
3. التعليم والصحة
الاستثمارات في التعليم والصحة لا تتناسب مع حجم السكان والاحتياجات. المدارس تعاني من نقص الموارد، ومستشفيات القطاع العام تعاني من تقادم المعدات ونقص الكوادر الطبية، مما أدى إلى تردي الخدمات وارتفاع نسبة الأمراض.
ثالثا: إخفاقات في السياسة الخارجية
1. العلاقة مع دول الخليج
في الوقت الذي تحدث فيه السيسي إلى الشعوب العربية والخليجية، تشهد علاقته بدول مثل قطر توتراً مستمراً، خصوصًا بعد الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات ومصر على الدوحة، والذي لا يزال يؤثر على الاستقرار الإقليمي.
2. ملف ليبيا
دعم النظام المصري لفصائل معينة في ليبيا لم يحسم الملف بل ساهم في تعقيده، حيث لا تزال ليبيا تعاني من الصراعات الداخلية رغم تدخلات القاهرة المكثفة.
3. أزمة نهر النيل
في ملف سد النهضة، رغم التصريحات القوية للسيسي، لم يتم تحقيق أي تقدم ملموس حتى الآن، والملف ما زال يهدد الأمن المائي المصري، مما يطرح تساؤلات حول فعالية الدبلوماسية المصرية.
رابعا: لماذا يرى السيسي نفسه وحده صاحب الفهم؟
يعكس هذا التصريح ما بات واضحًا في ممارسات النظام منذ البداية: اعتقاد السيسي بأن حكمه هو الحل الوحيد لمشاكل مصر، وأن المعارضة أو الإعلام المستقل هم أعداء للوطن.
هذا الاعتقاد ينشأ من عدة أسباب:
- الانقلاب العسكري: حيث اعتاد على فرض السيطرة بالقوة العسكرية، ما عزز لديه ثقة زائدة في نفسه ورفض الآخر.
- السلطة المطلقة: سيطرته الكاملة على أجهزة الدولة تسببت في عزلة عن الواقع، حيث لا تصل له إلا الأخبار التي يريدها، أو تقارير مُصاغة حسب طلبه.
- الإعلام الموجه: نظام إعلامي يخدم بناء صورة بطل المنقذ، ويشن حملات تشويه ممنهجة ضد أي صوت مخالف.
- غياب الحوار الحقيقي: بسبب القمع، لم تتوفر أية فرصة حقيقية للاطلاع على وجهات نظر مختلفة أو دراسة نقدية للسياسات.
خامسا: تأثير هذه العقلية على المجتمع والسياسة
هذه النظرة الاحتكارية تجعل من الحوار الوطني شبه مستحيل، وتحول السياسة إلى أداء تمثيلي، لا يستمع إلا لصوت واحد، وهو صوت السلطة.
يتحول المواطن إلى متلقي سلبي، والشارع محاصر، مما يؤدي إلى:
- غياب المشاركة الشعبية الحقيقية.
- تراجع فرص الإصلاح السياسي والاجتماعي.
- اتساع الهوة بين السلطة والمواطنين.
- تصاعد الاحتقان الشعبي الذي قد ينفجر في أوقات غير متوقعة.
في النهاية فإن تصريحات السيسي خلال تفقده الكلية الحربية ليست مجرد تحذير عام، بل تعبير صريح عن فلسفة حكمه التي ترى نفسها وحدها صاحبة الحقيقة.
لكن هذه الفلسفة قائمة على إقصاء الآخر، ورفض النقد، وهو ما انعكس في فشله على عدة أصعدة داخلية وخارجية.
مصر تحتاج إلى قيادة تؤمن بتعددية الآراء والحوار البناء، لا إلى زعيم يرى في نفسه الصوت الوحيد الصحيح مهما كان الثمن.