تشهد مصر في الآونة الأخيرة ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الأسمنت، أحد أهم مواد البناء التي تؤثر بشكل مباشر على قطاع الإسكان والمشروعات القومية والخاصة، وحتى على أسعار العقارات والإيجارات. تجاوزت الأسعار في بعض المحافظات حاجز 2500 جنيه للطن، بعد أن كانت أقل من 1100 جنيه قبل أعوام قليلة.
وفي الوقت الذي يعاني فيه السوق المحلي من نقص المعروض وارتفاع الأسعار، تتوجه شركات الأسمنت إلى تصدير جزء كبير من إنتاجها إلى الخارج، خاصة إلى دول الخليج وأفريقيا، بهدف تحصيل الدولار في ظل الأزمة الاقتصادية ومشكلة نقص العملة الأجنبية التي تعاني منها مصر.
فهل التصدير هو السبب الوحيد في تفاقم الأزمة؟ وهل يكفي وقف تصدير الأسمنت لحل المشكلة؟ أم أن هناك أبعادًا أعمق تشمل الطاقة، والمنافسة، وهيكلة السوق؟
أرقام وإحصائيات عن صناعة الأسمنت في مصر
- عدد الشركات المنتجة: 23 شركة.
- الطاقة الإنتاجية: نحو 85 مليون طن سنويًا.
- الاستهلاك المحلي: يتراوح بين 45 - 50 مليون طن سنويًا فقط.
- الفائض: أكثر من 30 مليون طن.
- الصادرات السنوية: ما بين 4 إلى 6 ملايين طن، بحسب بيانات الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات.
- الدول المستوردة: اليمن، ليبيا، السودان، السعودية، كينيا، أوغندا، غانا، وبعض دول أوروبا الشرقية.
المفارقة أن السوق يعاني من ارتفاع الأسعار رغم هذا الفائض الضخم في الإنتاج، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة حول أسباب هذا الخلل.
أسباب ارتفاع أسعار الأسمنت في السوق المصري
- زيادة التصدير من أجل الدولار
مع تدهور قيمة الجنيه المصري وشح الدولار، أصبح التصدير لأي منتج فرصة ذهبية لجني العملة الأجنبية.
وبما أن الطلب الإقليمي على الأسمنت في بعض الأسواق المحيطة قوي، توجهت شركات الأسمنت المصرية بشكل مكثف إلى بيع الفائض في الخارج بأسعار مرتفعة بالدولار، ما أثر على الكميات المتوفرة محليًا.
- الاعتماد على الطاقة الباهظة
إنتاج الأسمنت يعتمد على الطاقة بكثافة، وخاصة الغاز الطبيعي والفحم.
ومع ارتفاع أسعار الطاقة عالميًا، وتحرير أسعار الوقود في مصر، ارتفعت تكاليف التشغيل على الشركات، التي بدورها نقلت تلك الزيادة إلى المستهلك النهائي.
- احتكار السوق وتقلص المنافسة
عدد قليل من الشركات يهيمن على السوق المصري، وعلى رأسها شركات كبرى منها ما هو تابع للجيش أو مملوك لشركات أجنبية. ويُتهم بعضها ضمنيًا بـ"تنسيق" غير رسمي للأسعار عبر تقليل الإنتاج أو توجيه الإنتاج للتصدير لتحقيق أكبر ربح ممكن، خاصة في ظل ضعف الرقابة الحكومية.
- ضعف الرقابة وتسعير حر بالكامل
سوق الأسمنت في مصر يعمل بنظام الحرية الكاملة في التسعير، ما يعني أن الشركات حرة في تحديد الأسعار وفقًا للعرض والطلب.
لكن في حال وجود طلب مرتفع مصطنع أو عرض ناقص بفعل فاعل، فإن الأسعار ترتفع دون مبرر حقيقي.
آراء الخبراء حول الأزمة
د. أحمد الزيني – رئيس شعبة مواد البناء باتحاد الغرف التجارية: "الارتفاع غير مبرر... لدينا فائض إنتاجي كبير، ولو تم وقف التصدير جزئيًا أو فرض رسوم عليه، سنرى انخفاضًا واضحًا في الأسعار."
د. إبراهيم مصطفى – خبير اقتصادي: "لا يمكن تحميل التصدير وحده مسؤولية الأزمة، بل هناك إشكالات أعمق تتعلق بهيكل السوق وهيمنة بعض اللاعبين، وغياب الدور التنظيمي للدولة."
شريف عفيفي – رئيس شعبة السيراميك ومواد البناء باتحاد الصناعات: "الشركات لا تصدّر من فراغ، بل لأن سعر الدولار مجزٍ جدًا. المشكلة في أن الحكومة لا تقدم حوافز كافية للإنتاج المحلي بأسعار معقولة."
تأثير الأزمة على قطاعات أخرى
- قطاع العقارات
ارتفاع سعر الأسمنت يرفع تكلفة البناء، وهو ما يؤدي إلى:
زيادة أسعار الوحدات السكنية.
تباطؤ تنفيذ بعض المشاريع.
تحميل المواطنين أعباء إضافية سواء في الشراء أو الإيجار.
- المشروعات الصغيرة والمتوسطة
مقاولون صغار اضطروا لتجميد أعمالهم أو تقليل حجمها بسبب ارتفاع تكاليف المواد الخام، وعلى رأسها الأسمنت.
- المواطن البسيط
الأسمنت يدخل في إنشاء منزله، أو ترميمه، أو حتى في بناء عشة في الريف. وحين يتضاعف سعره، تتأثر حياة الملايين بشكل مباشر.
هل إيقاف التصدير هو الحل؟
قد يبدو وقف التصدير حلاً سهلًا في الظاهر، لكنه يحمل أبعادًا معقدة:
الإيجابيات:
- زيادة المعروض في السوق المحلي.
- ضغط على الشركات لتخفيض الأسعار.
- تهدئة السوق ووقف الاحتكار.
السلبيات:
- خسارة مصادر للدولار في وقت تحتاج فيه مصر للعملة الأجنبية بشدة.
- فقدان أسواق تصديرية قد يصعب استعادتها لاحقًا.
- معاقبة الشركات التي تعمل وفق قوانين الاستثمار وتستهدف المنافسة العالمية.
الحل الحقيقي يجب أن يكون وسطًا بين حماية السوق المحلي وتعظيم العائد من التصدير.
حلول مقترحة لأزمة الأسمنت
- فرض رسوم مؤقتة على التصدير: وليس منعه تمامًا، مع استخدام هذه الرسوم لدعم الأسعار محليًا.
- تحديد سعر استرشادي محلي: عبر هيئة تنظيمية توازن بين السعر العالمي والمحلي.
- تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار: عبر فتح المجال أمام مصانع جديدة ومراجعة تركيبة السوق.
- مراقبة تكلفة الإنتاج: والتأكد من أن الزيادة في السعر مبررة اقتصاديًا وليست نتاج تنسيق ضمني.
- تقديم حوافز للشركات التي تورد إنتاجها للسوق المحلي بأسعار عادلة.
دروس مستفادة من الأزمة
الدولة بحاجة إلى آلية توازن بين التصدير وتوفير المنتج محليًا، خصوصًا في المواد الأساسية.
لا بد من إعادة النظر في مفهوم السوق الحر المطلق، خاصة إذا كان يؤدي إلى تحميل المواطن الفاتورة الأكبر.
تحقيق الأمن الصناعي جزء من الأمن القومي، ولا يمكن ترك مواد كالإسمنت والحديد لسياسات السوق وحدها.
وفي النهاية فإن أزمة الأسمنت في مصر ليست مجرد نتيجة مباشرة لتصديره للخارج، بل نتاج شبكة معقدة من الأسباب تتداخل فيها السياسة الاقتصادية مع تحولات السوق ونقص الرقابة والمنافسة. وقف التصدير قد يمنح السوق فرصة لالتقاط الأنفاس، لكنه لن يكون الحل الجذري.
كما أن الحل الحقيقي يكمن في إصلاح منظومة التسعير، وكسر الاحتكار، وتوازن سياسة التصدير مع الحماية الاجتماعية. إن المواطن المصري البسيط لا يجب أن يكون هو الضحية الوحيدة في كل مرة ترتفع فيها الأسعار من أجل جلب الدولارات.