في خطوة مثيرة للجدل، أعلنت الحكومة المصرية مطلع يونيو 2025 عن نيتها طرح 10 شركات مملوكة للدولة للبيع لمستثمرين استراتيجيين أو عبر البورصة، منها 4 شركات تابعة للمؤسسة العسكرية، وذلك ضمن ما تسميه "خطة توسيع مساهمة القطاع الخاص".
هذا الإعلان، الذي رُوّج له باعتباره بوابة إصلاح اقتصادي، يعكس في جوهره اعترافًا صريحًا بفشل النموذج الاقتصادي القائم تحت سيطرة العسكر، الذي تفاقم منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي في يوليو 2013، وأسفر عن تراجع مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتدهور غير مسبوق في المعيشة والاستثمار والثقة الدولية.
شركات الجيش.. من السرية إلى المزاد
أعلن رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي في ديسمبر 2024 أن الحكومة ستطرح حصصاً في 10 شركات حكومية خلال 2025، تشمل قطاعات البنوك والطاقة المتجددة والصناعات الغذائية والدوائية، منها بنك القاهرة وبنك الإسكندرية، ومحطة رياح جبل الزيت، وشركات تابعة للجيش مثل "وطنية" و"صافي" و"سايلو" و"تشيل أو".
تأتي هذه الخطوة في إطار التزام الحكومة باتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض قيمته 8 مليارات دولار، يتطلب تقليص دور الدولة في الاقتصاد وزيادة مساهمة القطاع الخاص
من بين الشركات المطروحة للبيع وفقًا لبيان وزارة التخطيط، شركات تابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، مثل "الشركة الوطنية للبترول"، و"الوطنية لتعبئة المياه"، إضافة إلى شركتين تعملان في قطاع الصناعات الغذائية والتشييد.
هذه الشركات ظلت لعقود خارج أي رقابة برلمانية أو محاسبية، ما يجعل عملية بيعها مثارًا للتساؤلات.
في هذا السياق، يشير الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق إلى أن "دخول الجيش في الاقتصاد المدني ساهم في خنق القطاع الخاص، وحوّل المنافسة إلى مسرحية لا رابح فيها"، مؤكدًا أن بيع هذه الأصول اليوم يأتي في لحظة ضعف لا قوة.
خلفية الأزمة
منذ استيلاء الجيش على السلطة في 2013، تزايدت هيمنة المؤسسة العسكرية على مفاصل الاقتصاد، من إنتاج الأسمنت والمياه وحتى الفنادق والأسماك. ورغم هذا التوسع، لم تنعكس تلك الأنشطة على مؤشرات النمو أو حياة المواطن.
بحسب بيانات البنك الدولي، نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقل عن 3.5% في 2023، بينما تجاوزت معدلات التضخم 35%، وبلغت معدلات الفقر الرسمية نحو 32.5% (والفعلي يُقدّر بأكثر من 50%).
ووفقًا لتقرير صادر عن "مجموعة أكسفورد للأعمال" (OBG)، فإن الاستثمارات الخاصة في مصر انخفضت بنسبة 28% بين 2021 و2024، نتيجة انعدام الشفافية وتضخم دور الجهات السيادية في السوق.
بيع أم تصفية؟
إعلان بيع الشركات يأتي في ظل التزامات قاسية تجاه صندوق النقد الدولي، بعد أن حصلت مصر على قرض جديد بقيمة 8 مليارات دولار مطلع 2024، يتضمن شروطًا أبرزها تقليص دور الجيش في الاقتصاد، وتعزيز الحوكمة.
ووفقًا لتقرير الصندوق في مارس 2025، فإن الحكومة "لم تحقق تقدمًا جوهريًا في تنفيذ التزاماتها المتعلقة بالحوكمة وتقليص الاقتصاد غير الرسمي"، ما اضطر القاهرة للإعلان عن موجة الخصخصة الجديدة.
لكن كثيرًا من المحللين، ومنهم الباحث الاقتصادي مصطفى يوسف، يعتبرون أن هذه الخطوة أشبه بـ"تصفية للأصول تحت ضغط الإفلاس"، وليست إصلاحًا طوعيًا.
تداعيات على الاقتصاد الوطني
رغم ما يُروّج له من مكاسب مرتقبة، فإن بيع شركات الجيش يثير قلقًا واسعًا، نظرًا لغياب الشفافية وسابقة التعامل في بيع أصول الدولة، حيث بيعت شركات استراتيجية مثل "النيل للألبان" و"الحديد والصلب" بأسعار بخسة وانتهى بها المطاف بالإغلاق أو التفكيك، كما أن غياب الرقابة البرلمانية الحقيقية يفتح الباب أمام شبهات الفساد.
وعلى المستوى المجتمعي، تُنذر هذه الخصخصة بموجة تسريح عمال واسعة، وزيادة في الأسعار، وفقدان الدولة لآخر ما تبقى من أدوات السيطرة على الاقتصاد في ظل غياب قطاع خاص قوي ومستقل.
نهاية مأساوية لنموذج العسكرة الاقتصادية
يبدو أن النظام المصري يسير نحو النهاية المتوقعة لنموذج "العسكرة الاقتصادية"، الذي أثبت فشله في خلق تنمية مستدامة أو جذب استثمارات أو توفير فرص عمل.
فبعد أكثر من عقد من الإنفاق غير المنتج، وتضخم المشروعات العملاقة عديمة الجدوى (مثل العاصمة الإدارية والقطارات السريعة)، تجد السلطة نفسها اليوم مجبرة على بيع أصولها، في محاولة يائسة لتأمين عملات أجنبية وسداد الديون، التي تجاوزت 165 مليار دولار في 2025 وفق بيانات البنك المركزي.
ما يحدث ليس خطة إصلاح، بل اعتراف بفشل سياسي واقتصادي ذريع يحمّل الشعب ثمن مغامرات الحكم العسكري.