أقدمت نيابة أمن الدولة العليا خلال ثمانية أشهر فقط، من أكتوبر الأول 2024 حتى مطلع يونيو 2025، على إحالة قرابة عشرة آلاف مواطن إلى المحاكمة الجنائية أمام دوائر الإرهاب، في ما يقرب من 202 قضية ترتبط جميعها باتهامات متكررة تشمل: الانضمام إلى جماعة إرهابية، أو دعمها، أو تمويلها.

ورغم أن جلسات محاكمة لم تُحدد إلا لـ98 قضية فقط حتى الآن، إلا أن الرقم الهائل للمحالين يشير إلى تحوّل جذري في نهج السلطة القضائية المصرية تجاه ملف الحبس الاحتياطي، وسط اتهامات حقوقية بأنها مجرد إعادة تغليف للأزمة الحقوقية المستمرة منذ سنوات، لكن هذه المرة برداء قضائي، لا قانوني أو أمني فقط.

 

"تصريف جماعي" لقضايا الحبس الاحتياطي
   بحسب مصدر قضائي رفيع المستوى في المكتب الفني للنائب العام، فإن هذه الإحالات جاءت في إطار ما وصفه بـ"تصريف جماعي" لملفات الحبس الاحتياطي الطويل التي تراكمت منذ سنوات، وخصوصاً القضايا العالقة منذ 2016 وحتى 2022، والتي تجاوز فيها آلاف المتهمين الحد الأقصى للحبس الاحتياطي المنصوص عليه في القانون (عامان).

وتشمل القضايا المحالة نساءً وفتيات، ومحامين، وحقوقيين، وسياسيين معارضين، وأعضاء سابقين في البرلمان، وحتى مرشحين رئاسيين سابقين، جميعهم يواجهون اتهامات نمطية اعتادت النيابة المصرية تكرارها في قضايا الرأي والمعارضة.

وتؤكد مصادر قضائية أن توجيه النائب العام محمد شوقي عياد، إلى تسريع وتيرة الإحالة جاء كاستجابة لضغوط سياسية داخلية وخارجية، في محاولة لاحتواء الانتقادات المتزايدة بسبب استمرار الحبس دون محاكمة.
 

من النيابة إلى المحكمة.. تدوير الأزمة بدلًا من حلّها
   يرى محامون وحقوقيون أن ما يجري هو تحايل قانوني هدفه الوحيد نقل الحبس من سلطة النيابة إلى سلطة المحكمة، دون أي ضمانات لمحاكمات عادلة أو إجراءات منصفة.

يقول المحامي بالنقض والدستورية العليا أحمد حلمي، رئيس هيئة الدفاع عن عدد كبير من المتهمين: "نحن أمام عملية إعادة تغليف للأزمة الحقوقية، لا حلّ لها. فبدلاً من الإفراج أو إسقاط القضايا، يتم تمريرها إلى ساحات القضاء، ولكن أمام دوائر محددة تفتقر لضمانات الاستقلال".

وحذّر حلمي من أن محاكمة هذا الكم الهائل من القضايا أمام دائرتين فقط، تعني عملياً استمرار الحبس لسنوات جديدة، ولكن عبر قرارات قضائية هذه المرة، لا قرارات نيابية.
 

ضغوط دولية وصندوق النقد في الخلفية
   تُجمع شهادات متقاطعة لحقوقيين ومصادر قضائية أن إحالات هذه القضايا جاءت أيضًا استجابة غير مباشرة لضغوط دولية، وعلى رأسها شروط صندوق النقد الدولي في مفاوضاته مع القاهرة، والتي تضمنت دعوات صريحة لإنهاء ملف الحبس الاحتياطي المطوّل، ووقف ملاحقة المعارضين على خلفية سياسية.

ويشير مراقبون إلى أن الدولة اختارت الخيار الأسهل، بترحيل الملف إلى القضاء بدلاً من فتح حوار سياسي أو تعديل التشريعات المكبّلة للحقوق والحريات.
 

دوائر الإرهاب.. أزمة استقلال وعدالة
   يرى المستشار محمد ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض الأسبق، أن جوهر الأزمة لا يكمن فقط في حجم الإحالات، بل في شرعية المحاكم ذاتها التي تنظر القضايا، وقال: "دوائر الإرهاب تُشكَّل من قضاة ثابتين منذ سنوات، ما يتعارض مع مبدأ استقلال القاضي ويُعد توجيهاً ضمنياً للحكم".

وانتقد دربالة بشدة عقد الجلسات داخل السجون المغلقة، مشيراً إلى أنها تقوّض حق الدفاع، وتعزل المحامين عن موكليهم، وتمنع الإعلام والمراقبة الشعبية، وهو ما يفرغ المحاكمات من أي مضمون قانوني أو حقوقي حقيقي.