صالحة علام:

كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا

 

في حين ما زالت تتواصل عمليات الإنقاذ التي تقوم بها طواقم الإغاثة في سباق محموم مع الزمن لإخراج أكبر عدد ممن لا يزالون عالقين تحت أنقاض البنايات التي تهدمت على رؤوس قاطنيها، بدأت حملة سياسية شرسة واسعة النطاق داخليًا وخارجيًا، مستغلة حالة الحزن العميق الذي يلف بعباءته السوداء مظاهر الحياة اليومية للأتراك حزنًا على من قضوا ومن تشردوا، بسبب الزلزال المدمر الذي ضرب إحدى عشرة محافظة تركية انطلاقًا من مدينة كهرمان مرعش، في مساحة يقطنها حوالي عشرين مليون مواطنًا، تهدمت منازلهم واختفى تحت الركام أحباؤهم، ومصادر أرزاقهم.

 

حملة شعواء تستهدف تشويه أردوغان وحكومته

الحملة التي يبدو أنها ستتصاعد خلال الأيام المقبلة تستهدف في الأساس النيل من شخص الرئيس أردوغان ومن طريقة إدارته للدولة، وتسعى لتشويه صورته أمام المواطنين الأتراك، وإظهار حكومته وفريق العمل معه كمجموعة من الفاشلين الفاسدين، الذين تسببوا بفسادهم في إهدار هذا العدد الضخم من الأرواح البريئة، الذي وصل حتى كتابة هذا المقال إلى 36 ألفًا و186 شخصًا، في إطار الاستعداد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي لم يتبق على موعدها إلا حوالي سبعة وخمسين يومًا فقط.

وفي هذا الإطار خرج علينا أبواق الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لعمل مقاربة ظالمة بين الزلزال الذي ضرب إزميت في السابع عشر من أغسطس/آب 1999، وبين زلزالي كهرمان مرعش 2023، حيث كتبوا جميعًا عنوانًا واحدًا، وكأن هناك تعليمات جاءتهم بتسويقه “أردوغان بين زلزالين، أتى به زلزال 1999، وسيذهب به زلزال 2023″، مقاربة غريبة تتجنى على الحقائق، وتقفز على الواقع، وتشوّه الجهود المبذولة لإغاثة المتضررين.

 

أجاويد يعلن عجز حكومته عن تقديم العون للمتضررين

فزلزال السابع عشر من أغسطس/آب 1999، الذي ضرب تركيا في عهد حكومة حزب اليسار الديمقراطي برئاسة بولنت أجاويد، بقوة 7.6 درجات على مقياس رختر، أسفر وفقًا للأرقام الرسمية عن وقوع حوالي سبعة عشر ألف وأربعمائة وثمانين قتيلًا، وأربعة وأربعين ألف جريح، ونصف مليون ظلوا في العراء دون مأوى، نتيجة تقاعس الحكومة وفشلها في إدارة هذه الأزمة، حتى أن بولنت أجاويد رئيس الوزراء آنذاك خرج أمام وسائل الإعلام بعد ساعات قليلة من وقوع الزلزال متحدثًا بكل وضوح عن عجز حكومته في الحصول على المعلومات الضرورية لتقديم العون للمتضررين جراء هذا الزلزال، مبررًا ذلك لعدم قدرتها على التواصل مع المناطق المتضررة بسبب انقطاع خطوط الهاتف.

فيما كانت عمليات الإغاثة الرسمية بطيئة ومحدودة، وتم الاستعانة بعدد قليل من الخيام البالية والمهترئة لإسكان المواطنين فيها، ورغم طلب الحكومة التركية الدعم من المنظمات الدولية واستجابة المجتمع الدولي لطلبها، إلا أنها فشلت مجددًا في مجرد التنسيق بين جهود أفراد هذه المنظمات، الأمر الذي أسفر عن وقوع كارثة إنسانية، زادت من أعداد القتلى والجرحى.

ولولا تدخل منظمات المجتمع المدني بمختلف توجهاتها الإيديولوجية، وعدد من الجمعيات الوقفية لإغاثة المتضررين، ومد يد العون للمعوزين، سواء من أصبح منهم في العراء يلتحف السماء، ولا يجد ما يقتات به، أو هؤلاء الذين حوصروا تحت الأنقاض، لكان حجم الكارثة أكثر بكثير مما تم الإعلان عنه.

وهو ما أدى لاحقًا إلى مواجهة البلاد لأزمة اقتصادية طاحنة أطاحت بالحكومة، وفتحت الباب على مصراعيه لحزب العدالة والتنمية لتبوّء السلطة في البلاد بعد أن عانى الناس الأمرين من توالي حكومات ائتلافية أضرت أكثر مما ساعدت وأفسدت أكثر مما أصلحت.

 

الصورة بين الأمس واليوم

تختلف هذه الصورة التي حدثت بالأمس تمامًا في تفاصيلها كلها عما نراه اليوم ونشاهده مباشرة من عمليات إغاثة منظمة، تشارك فيها فرق إغاثة من 74 دولة بطواقم مدربة على أعلى مستوى، تحت إشراف هيئة مكافحة الكوارث والطوارئ التركية، باستخدام أحدث التقنيات التي تسهم في سرعة الوصول إلى العالقين تحت الأنقاض، والتي من ضمنها الاستعانة بمئتي وسبعة وخمسين قمرًا صناعيًا من سبعة عشرة وكالة فضاء مختلفة لتقديم المعلومات اللازمة لفرق الإغاثة مما يسهم مساهمة فاعلة في أداء عملهم بسرعة وإتقان.

إلى جانب السرعة الملحوظة في توفير أماكن لإيواء المتضررين الذين أقيمت لهم مخيمات مجهزة باحتياجاتهم كلها حتى لا يبيتوا في العراء، كما تم ترحيل الكثير منهم للإقامة في المدن الجامعية والفنادق، إلى جانب توفير احتياجاتهم الأساسية سواء من الملابس أو المواد الغذائية، حيث تم إنشاء عدد من المطاعم يشرف عليها متخصصون في إعداد الوجبات على مدار اليوم.

فرق إغاثة وطواقم طبية ومتطوعون من مختلف دول العالم

إضافة إلى الطواقم الطبية التي توافدت سريعًا بكامل معداتها على الأماكن المتضررة تحت إشراف وزارة الصحة، التي ساعدت في تقديم العون والرعاية الصحية للمصابين والمرضى، بينما قامت الخطوط الجوية الوطنية بنقل المتطوعين الذين توافدوا بالآلاف، من المطارات إلى الأماكن المتضررة في رحلات متتالية.

وفي الوقت نفسه بدأت عمليات حصر المباني المتهدمة والمتضررة تمهيدًا لعملية إعادة الإعمار التي من المقرر أن تبدأ فور انتهاء عمليات الإغاثة، أي في الأول من الشهر المقبل، بينما قامت قوات الأمن بإلقاء القبض على أكثر من مائة وأربعة عشر من مقاولي البناء المسؤولين عن البنايات التي تهدمت، حيث بدأت وزارة العدل تحقيقاتها معهم.

 

تركيا الرسمية حاضرة بقوة في الميدان

أما على الصعيد السياسي فقد كانت الدولة التركية بكامل هيئتها حاضرة منذ الدقائق الأولى لحدوث الكارثة، بدءًا من رئيس الجمهورية ونائبه، ومرورًا بوزراء الداخلية والصحة والبيئة والعدل والأسرة والطفل، وانتهاءً برؤساء البلديات والمحليات، باذلين كل ما يستطيعون من جهد لتخفيف حجم المعاناة، ورفع الروح المعنوية للمصابين والمواطنين في مختلف أنحاء البلاد.

ولوحظ حرص كل مسؤول منهم على عقد مؤتمر صحفي لتوضيح الحقائق أمام المواطنين دون مواربة أو تزييف، ساعين لطمأنة الجميع، مؤكدين أن الأمور تحت السيطرة، وأنه لا داعي للقلق أو الخوف، فلن يترك أحد تحت الأنقاض سواء كان حيًا أو ميتًا، لم يتقاعس أحد، ولم يقصر أحد.

تركي يلخص المشهد، ويرد على محاولات تشويه أردوغان

إذا لا وجه للمقاربة ولو من بعيد بين أداء حكومة بولنت أجاويد في كارثة زلزال 1999 وأداء حكومة أردوغان في كارثة زلزال 2023، فرق شاسع وكبير بين الأداءين، بين الأبيض والأسود، بين من خرج ليعلن عجزه ومن وقف بقوة لمساندة شعبه.

ولعل ما قاله مواطن تركي من غازي عنتاب، وأحد المتضررين من الزلزال الحالي لإحدى وسائل الإعلام يكون قد لخص المشهد، وأوضح الصورة كاملة، فالرجل الخمسيني انتقد في كلمته البلديات والمحليات قائلًا: “إننا مثل البناية، سقفها قوي لكن أركانها متعفنة، ليس لدينا فرصة سوى أردوغان، نسأل الله أن يحفظه ويطيل لنا في عمره”، في أبلغ رد على من يحاولون تشويه صورة الرجل ووصمه بما ليس فيه، طمعًا في إزاحته عن السلطة.

لا يمكن إنكار أن الكارثة كبيرة والمصاب جلل، والتكاتف أمر لا مناص منه، سواء من جانب الدولة ومسؤوليها أو من جانب المواطنين الذين سطروا بمواقفهم البسيطة أسطرًا رائعة من التفاني والتكاتف، ودرسًا متقنًا في التعاضد والتلاحم بين أبناء الأمة في الخطوب والنوازل.