مجدي الكاتب :

هل أمسكت حبة جوز ذات مرة، ثم تلمست صلابتها، ثم كسرت قشرتها، ثم أغمضت سريعاً عينيك -بلا إرادة منك- وقطبت جبينك، وأمسكت نَفَسك، ثم ألقيت بعيداً القشرة المحطمة؟ ذلك ببساطة لأن لب القشرة متعفن ولا يصلح للأكل؛ هذا لا يحصل مع الجوز فقط، بل مع أي ثمرة، صلبة كان غلافها أو لدناً ليناً أو عادي الصلابة، غير أن الثمار صلبة القشور لا تشي أبداً عن أي احتمالات سوى القوة والصلابة وجودة المحتوى، بخلاف حبة التين مثلاً التي يتوجس آكلها -عادة- من دودة في داخلها..

لولا خبرة الإنسان ما توقع أبداً أن هذه الصلابة تخفي خلفها عفناً، فكيف مثلاً لو أن أحدهم يملك شجرة جوز، وفي مرّ السنين كلها، ما كسر حبة جوز إلا ووجد لبها متعفناً، ثم أنه ورغم هذا المران الطويل لا يكسر حبة إلا وهو شغف بما خلف القشرة، وكأنه يكسرها للمرة الأولى، وكأنه لم يتعلم أبداً أن هذه الشجرة لا تثمر إلا حباً عفناً!

الغريب ليس إثمار الشجرة الدائم بالثمر الخرب، ذلك أولاً: أن هذا حاصل في الشجر، وقد اتخذ الله من عادة الشجر هذه مثلاً فقال: (شجرة مباركة)، وقال: (شجرة تنبت في أصل الجحيم)، وقال: (كلمة طيبة كشجرة طيبة)، وقال: (كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، وثانياً: لأن المتوقع من مالك شجرة الجوز هذه أنه قد خبر شجرته خاصة وأنها لم تصدف مرة بحبة جيدة اللب كما هي صلبة القشر.. إن الغريب هو سلوك صاحب الشجرة والذي وبدلاً من اقتلاع شجرته بقي سنوات عمره كلها يطرق حباتها، حبة حبة، متوقعاً في كل حبة لباً شهياً.. ليس في ذلك شيء من الفأل الحسن، بل ضياع العمر وجَهْد العذاب.

هل كان خطاب الرئيس قوياً؟ الصحيح أنه كان مختلفاً، على غير عادته، أسهب في ذكر عذابات شعبنا، ومظلمته التاريخية، وجرحه المفتوح على نزف حاضر لا يرقأ له دم، إلى درجة الحديث عن أصل الصراع وبدايته التي كانت في العام 48 لا في العام 67، كل ذلك جديد، وجميل، ويستحق الذكر والإشادة والثناء، وإضافة إليه لا يمكن لأي فلسطيني إلا وأن تتحرك مشاعره تأثراً صادقاً بمشهد التصفيق العاصف لكلمة الرئيس، أو لتوصيفه الدقيق والصادق لمعاناة شعبنا منذ عقود إلى الآن، غير أن هذه ليست بداية معرفتنا بالرئيس واستراتيجيته السياسية، ولا بداية معرفتنا بمشروع الأخوة في حركة فتح، ولأن الواقع على الأرض لا يكشف أبداً عن أي تغير مطلوب، فإن الخطاب لا يعدو أن يكون قشرة صلبة لا تنغلق على لب يشتهيه الفلسطيني.

لم يكن مطلوباً من الرئيس أن يتحول في خطابه وحسب، مع أنه وفي كل الأحوال خطاب من هذا النوع أفضل من سوابقه النازلة عنه مستوى، ذلك لأننا نكره المناكفة، ولا نرجو اخطاء الناس لاصطيادها واشباع عقدة التشفي، فهذا سلوك المرضى بذواتهم وأحزابهم، فخطأ المجموعات والأشخاص المؤثرين مهما اختلفنا معهم ضار حتماً بالقضية الوطنية، وقد يكون مدمراً، ولذا نرجو صواب المختلفين معهم، لأننا نقدم فلسطين على ذواتنا وجماعاتنا ومصالحنا الخاصة، بخلاف سلوك الاخوة في حركة فتح القائم على المناكفة واللعب على الكلمات والمواقف لإحراج الخصم وإسقاطه أو لتحقيق غاية خاصة ضيقة جداً وقد تكون صغيرة جداً.

كان المطلوب تغيراً في المواقف، ولو في حدود الممكن بالنسبة للرئيس وحركته والسلطة التي يقودها، إذا كان القفز مرة واحدة باتجاه خطوة جذرية متعذراً أو أمراً مستحيلاً.

ولأننا فلسطينيون، أصحاب الحق، المحترقون على جمر الاحتلال، نختلف عن أولئك الذين توقفوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة تصفيقاً للرئيس، ينبغي أن يكون تقييمنا مختلفاً، وملاحظاتنا دقيقة، مجردة من المجاملات، خالية من الثناء حسن النية سواء الصادر عن إعجاب عاطفي، أو توقع في تغيير، أو تشجيعاً لتغيير حقيقي، وكذا منزوعة من مجرد الرغبة في المناكفة لأسباب سياسية وحزبية أو لأسباب عدائية ناتجة عن الصراع السياسي والأوجاع المتولدة عن سياسات الرئيس وحركة فتح والسلطة، فلا عمر المحنة، ولا طبيعة الظرف، يحتمل هذا السلوك أو ذاك.

أولاً: لا بد من تسجيل الاختلاف مع الرئيس وحركة فتح في الاستراتيجية السياسية القائمة على الانطلاق من قرارات الأمم المتحدة التي تسلب شعبنا حقه الشرعي والأصلي والتاريخي والقانوني في فلسطين الانتدابية، أو في المبادرات المختلفة كالمبادرة العربية، وهذه مسألة مبدئية لا يجوز أن يصبح التأكيد عليها شيئاً من الماضي، أو أن يكون فيها حرجاً سياسياً، ونحسب أن الأجدر بقوى المقاومة وعلى رأسها حماس العودة للتأكيد الدائم على هذا الأصل الذي لا يجوز الحيد عنه، خاصة وأن لهم فيمن سلف عبرة، والدرس المستفاد العاجل من الثورات أن المواقف الجذرية وحدها هي الصالحة لاحقاق الحق لا غيرها، والله فوق ذلك الموفق إن صلحت النوايا وحسنت الوسائل.

ثانياً: رغم ثنائنا على الشق الذي يستحق الثناء في خطاب الرئيس، فإن الخشية واقعة من اتخاذ هكذا خطاب، وخطوة في الأمم المتحدة، لإلهاء الشعب الفلسطيني عن خطوة حقيقية أكثر جذرية وأصلح للتعامل مع الاحتلال، أو كعملية تجميل لسياسات حركة فتح المشوهة منذ أكثر من عشرين عاماً، أو لمجرد إثبات المصداقية، أو لإخراج جديد لنفس السياسة المتمثلة بالمفاوضات يقنع به المواطن الفلسطيني، أو لتسجيل خطاب تاريخي في السجل الشخصي على مثال خطاب الرئيس أبو عمار -رحمه الله-، فكل ذلك سلوك فئوي وشخصي يزيد القضية الوطنية ضرراً وأذى ولا يخدم سوى مصالح آنية وصغيرة لجهات محدودة في الشعب الفلسطيني؛ بل إن البعض يذهب إلى ما هو أكثر من ذلك بالقول أن كل ما جرى مدبر بالاتفاق مع الاحتلال وأمريكا لإقناع الشعب الفلسطيني بإخراج جديد للمفاوضات واستمرار الوضع القائم بعد أن انكشف الأفق عن انسداد محكم وبات مشروع السلطة في خطر خاصة في ظل الثورات العربية.

ثالثاً: لأن المهم هو الخطوات لا الخطابات، فإن خطاب الرئيس لم يكن خارطة طريق، وورقة عمل، كما ذهب عبد الباري عطوان في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي في عدد السبت 24/11، فمن الغريب توصيف الخطاب بهذا القدر من المبالغة، خاصة وأن خطاب الرئيس ورغم جودته في توصيف معاناة شعبنا ومظلوميته التاريخية ومنشأ الصراع، فإنه خلا تماماً من أي خارطة طريق، ولم يكن ذكر المقاومة السلمية ليغني في ذلك، خاصة وأنه أكد على العودة إلى لمفاوضات التي وصفها في نفس الخطاب بأنها لم تكن ذات معنى، فكيف يؤكد على العودة إلى شيء بلا معنى؟ هذا إضافة إلى أن المقاومة السلمية حتى الان لم تتجاوز قدر الاستخدام المصلحي للحزب الحاكم في الضفة لتجميل سياسات قائمة، ولم تكسر هذا الحد لتصبح حالة عامة مؤثرة ومحسوساً بها، أما غير ذلك فلم يذكر شيء جديد بحيث يعتبر خريطة طريق، ومع أن الرئيس أقر بأن الحاكم في الضفة الغربية هو الإدارة المدنية، فإنه مثلاً لم يهدد بتسليم تلك الإدارة كل شيء بما في ذلك رعاية السكان تحت الاحتلال، أو بأي خطوة دون هذه الخطوة.

رابعاً: تحدث الرئيس عن المصالحة، ووحدة الشعب الفلسطيني من بعد انقسام، وإذا كان الرئيس مقتنعاً بأهمية المصالحة، وضرورة الوحدة الوطنية، وأنها أكبر من أي مكاسب شخصية أو فئوية، وأنها تعلو على أي مخاوف وضغوطات من طرف الاحتلال والقوى المختلفة، فإن هذا كان يعني أن يتوجه للأمم المتحدة وعلى الأقل قد ترك أثراً طيباً في نفوس الفلسطينيين كلهم، قبل أن يترك مثل ذلك الأثر في نفوس المجتمعين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذين كان يمكن أن يصفقوا لأي صوت جميل يطرب، أو نكتة تضحك، أو مشهد درامي يبكي، فكيف يتزامن توجه الرئيس للأمم المتحدة مع شراسة حملة الاعتقالات التي شنتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية على أبناء شعبهم إلى درجة أنها شملت كتاباً وصحفيين كثامر سباعنة ومحمد منى، وهؤلاء لا يحملون سلاحاً يهدد أمن الاحتلال، أو يخدش التنسيق الأمني، أو يقلب نظام السلطة!

وهذا الإصرار على استمرار نهج الاعتقالات السياسية يشكل علامة استفهام كبيرة على سلوك السلطة السياسي، إذ لو أرادت هذه السلطة تحدي أمريكا واسرائيل لأوقفت التنسيق الأمني، أو على الأقل جعلته في حدود ضيقة -رغم رفضنا له في أي حال- وكفت يد الاعتقالات عن أبناء حماس، وفتحت باب الحريات واسعاً للنشاط السياسي والجماهيري والدعوي والإعلامي. وطالما أنها لم تفعل ذلك ولا تريد أن تفعل رغم توقيع اتفاق المصالحة، ورغم انسداد الأفق السياسي لمشروع السلطة، ورغم خطوة التوجه للأمم المتحدة، فإن هذا لا يعني سوى شيئاً واحداً وهو أن الرئيس ومن خلفه فتح والسلطة يتحركون تحت السقف المسموح به أمريكياً واسرائيلياً رغم الرفض الدبلوماسي والإعلامي المعلن لخطوة السلطة، وأن ما لا يمكن أن تتسامح معه أمريكا واسرائيل فعلاً هو وقف التنسيق الأمني، أو رفع القبضة الأمنية عن حماس، أو مس الأمن الاسرائيلي، ولذلك لا يوجد أي تحرك بهذا الاتجاه من طرف السلطة أو من طرف الرئيس.

وعلى ذكر المصالحة، فإن خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، يشبه توقيع اتفاق المصالحة، فالمصالحة كانت توقيعاً بلا تنفيذ، بل على العكس لا يزال التنفيذ بخلاف الاتفاق، وخطاب الرئيس كان كلمات قوية بلا رصيد في الواقع، بل على العكس لا يزال الواقع بخلاف تلك الكلمات. وليس أبلغ في التعبير عن ذلك من حديث عن مصالحة ووحدة في الأمم المتحدة بينما الاعتقالات في الضفة تزداد شراسة لأسباب غير مفهومة.

خامساً: خطوة الأمم المتحدة في ذاتها تكشف عن استمرار سياسات مريبة لا تليق بالشعب الفلسطيني، وما عادت مقبولة خاصة بعد الثورات العربية، فالشعب الفلسطيني أكبر من أن يكون غُنَيْمة يقودها بعض من الفلسطينيين، وأكبر من أن تختزل قيادته في بعض من الأسماء القليلة كياسر عبد ربه، وصائب عريقات، فأي تغيير يكشف عنه خطاب الرئيس، إذا كان الانفراد بالقرار كما هو، خاصة وأن السبب الرئيسي في الانقسام سياسة حركة فتح تاريخياً القائمة على الانفراد في تقرير مصير الشعب الفلسطيني وكأنه تركة خاصة بفتح أو بعض رؤوسها؟ وهل قامت الثورات العربية إلا لأجل الكرامة المهدرة تحت أقدام حفنة من الذين استعبدوا الناس وقرروا لهم كما قرر فرعون ذات يوم حين قال: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)؟

سادساً: الأجواء المهيئة لهذه الخطوة، من تعبئة وحشد بعيداً عن نقاش سياسي حر وموسع، وفي ظل القمع للمختلفين سياسياً مع السلطة، وتعظيم خطوات الرئيس إلى درجة تكاد تقارب التقديس، وهو أمر لم يعتده الشعب الفلسطيني سابقاً حتى زمن أبو عمار، وحشد الناس بصورة منظمة من خلال تعطيل المدارس والجامعات والمؤسسات المختلفة للاحتفاء بالخطوة، وإلزام المساجد بالتكبير فور انتهاء الرئيس من كلمته، وغير ذلك، هو نسخة عن سياسات الأنظمة العربية التي ثارت عليها شعوبها، ويراد تطبيقها على شعبنا الذي لم يعتد سوى الحرية والأنفة، وهذا مريب، ولا يدل على نوايا حقيقية في التغيير، أو فتح صفحة جديدة في التعامل مع الاحتلال، وإلا لرفعت القيود عن الناس لنقاش هذه الخطوة بحرية وأريحية دون خوف أو وجل فهذا وحده فقط ما يكشف عن حسن النوايا.

وعلى هذا، وطالما أن سياسات السلطة لم تتغير، وطالما أن منظمة التحرير لم يعد بناؤها، وطالما أن السلطة وحركة فتح يستغلون بعض المواقف والتصريحات للتغطية على مواقفهم السياسية، فإنه من الضروري اتعاظ الخط السياسي المقابل والمتمثل بخط المقاومة ورأس حربته حركة حماس، لمراجعة بعض المواقف والتصريحات والمبادرات السابقة التي يساء فهمها حيناً ويساء توظيفها حيناً آخر، بل يتجاوزها البعض لما هو أبعد منها، ومن تلك المواقف والتصريحات والمبادرات حصر الموضوع السياسي بمنظمة التحرير وتفويض الرئيس بإدارة تلك المفاوضات كما هو في وثيقة الأسرى ومن ثم وثيقة الوفاق الوطني ومن ثم اتفاق مكة، والتردد في اتخاذ موقف من خطوة التوجه للأمم المتحدة، مع تفهمنا للظروف والملابسات التي تحيط بهذا الموقف أو ذاك، فإنه بات جلياً أن السلطة تستخدم ذلك كله لتسويغ مواقفها وإحراج خصومها، بل لتسويغ انفرادها بالقرار بحجة أن الموضوع السياسي محصور بالمنظمة بالاتفاق مع حماس سابقاً، ولا تزال آثار تلك المواقف والمبادرات ضارة ومؤذية ولم نر فيها خيراً بعد، وهذا يعيدنا لجذر المسألة وإعادة التأكيد على أصل الصراع دون حرج أو مواربة، فلا يليق بحركة مقاومة إلا أن تكون جذرية في صراع لا يحتمل الحلول الوسط.