د. ياسر عبد الرحمن
دكتوراه في الشريعة الإسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]
والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم.
"الله- سبحانه- يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها، ويتلقاها عباده، كل وفق طبيعته واستعداده، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه. والابتلاء واحد.. ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق.. الشدة تسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعاً وخشية. وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعداً، وتخرجه من الصف إخراجاً. والرخاء يسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكراً. وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء.. وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس.. «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» .. ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، «وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً» ممن يدركون حكمة الله. «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» ( )
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156]
"لا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها.. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها.. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً.. ( )
"إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان فيقابله الحق بالكفاح والجهاد وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة.. وفي هذا الاحتكاك المرير، تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل- حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله، لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة.. عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث، فيلقي به في جهنم..وتلك غاية الخسران.. " ( )
"ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم. وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف، وتتمحص القلوب. ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات " ( )
لذا فالابتلاءات من سنن الدعوات ،وعلينا أن نتذكر أن غايتنا هي إرضاء الله سبحانه وتعالى ودخول الجنة فعلينا بإخلاص العمل لله.
ولقد أثبتت الأيام أننا في حاجة إلي إخلاص الأعمال لله تبارك وتعالي،وكان صحابة النبي يحرصون علي إخلاص أعمالهم لربهم ويجددون نياتهم في كل وقت وحين، ومن ظن في إخلاصه إخلاص فإخلاصه يحتاج إلي إخلاص ، ولذا لا بد أن يراقب كل منا نيته ماذا أريد بأكلتي؟ ماذا أريد بكلمتي؟فإن أراد بها وجه الله أمضاها وإلا تركها ثم جدد نيته .
يقول ابن القيم: "عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها : علم لا يعمل به ، وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ، ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا ولا يقدمه أمامه إلي الآخرة ، وقلب فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به ، وبدن معطل من طاعته وخدمته ، ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أوامره ، ووقت معطل عن استدراك فارط أو اغتنام به وقربة ، وفكر يجول فيما لا ينفع ، وخدمة من لا تقربك خدمته إلي الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك ، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب وإضاعة الوقت ، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا علي الآخرة ، وإضاعة الوقت من طول الأمل ، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوي وطول الأمل ، والصلاح كله في اتباع الهدي والاستعداد للقاء "
كما علينا ألا نستعجل النصر
"قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصي المذخور فيها من قوي واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها علي حمايته طويلا !
وقد يبطئ النصر حتي تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ماتملكه من رصيد ، فلا تسبقي عزيزا و غالبا ، ولا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر حتي تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوي وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلي الله.
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبل ، ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولي لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغي ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئا من المشاعر الأخري التي تلابسه . وقد سئل رسول الله الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليري . فأيها في سبيل الله . قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا ، ويذهب وحده هالكا ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار !
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقي الباطل حتي يتكشف عاريا للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
وقد يبطئ النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائما حتي تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه !
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية ( ).
ومن أراد أن يفهم الواقع وملابساته وتتضح له الرؤية فلا بد من أن يدرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليتعرف على هديه في مواجهة الأزمات والابتلاءات، فهي ملئية بالدروس الإيمانية والمستهدفات التربوية والفوائد الدعوية لواقعنا المعاصر، وفي دراسة السيرة النبوية الإجابة عن كثير من التساؤلات في هذه المرحلة التي نعيشها.
فاستعينوا بالله واصبروا وتيقنوا أن النصر قادم قادم قادم بإذن الله.