في فجر يوم ثلاثاء حزين، لم تستيقظ القاهرة التاريخية على صوت الأذان أو حركة المارة المعتادة، بل على هدير جرافات عملاقة كانت تنهش في جسد واحد من أهم رموز الثقافة العربية في القرن العشرين. إنه ضريح أمير الشعراء، أحمد شوقي، الذي سقط شهيدًا تحت عجلات "التطوير" العشوائي، بعد أن نُقلت رفات صاحبه على عجل إلى "مقبرة الخالدين".
الحدث لم يكن مجرد عملية إزالة لمبنى قديم، بل كان إعلانًا صريحًا عن انهيار منظومة القيم التي تحترم التاريخ، ونكثًا لعهود حكومية قاطعة قُطعت قبل عامين بعدم المساس بهذا الأثر الفريد. اليوم، وبينما تتفاخر الحكومة بمشاريع "الجمهورية الجديدة"، يقف المصريون مذهولين أمام مشهد الأطلال التي كانت يومًا مرقدًا لصاحب "الهمزية النبوية" و"نهج البردة"، في جريمة ثقافية مكتملة الأركان هزت وجدان كل من يعرف قيمة الكلمة والتاريخ.
مسلسل الخديعة: من "نفي الإزالة" إلى "التوسعة الإجبارية"
تعود جذور هذه الفضيحة إلى أغسطس 2023، حينما ضجت وسائل الإعلام بأنباء عن قرب هدم مقبرة شوقي. حينها، سارعت محافظة القاهرة لإصدار بيان "طمأنة" رسمي، نفت فيه بشكل قاطع وجود المقبرة ضمن مخططات الإزالة الجارية في منطقتي الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، ووصفت الأخبار المتداولة بأنها "عارية تمامًا من الصحة". تنفس عشاق التراث الصعداء، وظنوا أن حرمة "أمير الشعراء" قد عصمته من مصير مئات المقابر الأخرى.
لكن ما كشفه مصدر بإدارة الجبانات لموقع "صحيح مصر" اليوم يزيح الستار عن خديعة كبرى. ففي مايو الماضي، أي بعد أقل من عامين على "الوعد"، أظهرت مخططات هندسية جديدة لإنشاء طريق يربط بين ميداني السيدة عائشة والسيدة نفيسة "حاجة ملحة" لتوسعة إضافية. هذه التوسعة، وبجرة قلم من مهندس لا يرى سوى الأسفلت، ابتلعت المنطقة التي تضم مقابر عمالقة: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم "شاعر النيل"، والشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء"، وقبة المهندس محمود فهمي.
القرار استقر في النهاية، وبشكل "سري"، على التضحية بمقبرة شوقي أولًا. تواصلت الجهات المسؤولة مع أسرة الشاعر في مايو، وتم نقل الرفات في يونيو إلى مدفن مؤقت اختارته الأسرة، في انتظار الانتهاء من "مقبرة الخالدين" التي وجه الرئيس بإنشائها. أما عن مصير الجيران العظماء – حافظ ورفعت – فالإجابة كانت مرعبة في غموضها: "الله أعلم، كل شيء وارد في حال الاحتياج لتوسعة جديدة". هكذا، وبكل بساطة، أصبح بقاء رفات "شاعر النيل" مرهونًا بسعة "حارة مرورية" إضافية!
مذبحة "مدينة الموتى": تاريخ يُباد تحت شعار "السيولة المرورية"
ما حدث لمقبرة شوقي ليس حادثًا معزولًا، بل هو الفصل الأكثر مأساوية في "مذبحة" ممنهجة تتعرض لها "مدينة الموتى" المسجلة في اليونسكو. باحث أثري متخصص كشف لـ"صحيح مصر" عن أرقام مفزعة: الحكومة أزالت بالفعل 80% من المقابر التاريخية في شارعي الطحاوية وابن الفارض، وهما شرايين رئيسية في جبانة الإمام الشافعي. شارع الطحاوية "انتهى تقريبًا"، وشارع ابن الفارض لم يتبق منه سوى 20 مقبرة حديثة، بينما سويت بالأرض تحف معمارية لا تقدر بثمن، مثل قبة حليم باشا، ومقبرة الملكة فريدة، ومقبرة الشاعر والمناضل محمود سامي البارودي، ومقبرة الفلكي الشهير محمود باشا.
وفي منطقة السيدة نفيسة، يقدر الباحث أن 70% من المقابر قد أزيلت، بما في ذلك مقابر لمواطنين عاديين يملكونها منذ قرن، ومقابر لشخصيات تاريخية مثل شيخي الأزهر مصطفى المراغي وحسن مأمون، والمناضلة درية شفيق التي أسست "بنت النيل". المثير للدهشة أن "جهات سيادية" كانت قد طمأنت أسر هؤلاء الرموز في 2022 باستثنائهم، لكن الجرافات عادت في 2024 لتطلب الرفات وتهدم الأضرحة. كل هذا الدمار يتم من أجل مشروع "محور صلاح سالم الجديد" وما يسمى بـ"الممشى الأثري" (!)، الذي يُفترض أن يربط المزارات، لكنه في الواقع يُقام على أنقاضها، في مفارقة لا تحدث إلا في مصر: تدمير الأثر لصنع طريق لمشاهدته!
القانون تحت جنازير الجرافات: تحايل مفضوح واستقالات احتجاجية
هذه العمليات لا تمثل فقط اعتداءً على التاريخ، بل دهسًا صريحًا للقانون المصري. المادة الثانية من القانون رقم 144 لسنة 2006 تحظر بوضوح تام الترخيص بهدم المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز أو المرتبطة بشخصيات تاريخية. ومقبرة شوقي، بتصميمها الفريد ورمزية صاحبها، تنطبق عليها كل شروط الحماية. ومع ذلك، يتم التحايل على القانون بذرائع "المنفعة العامة" التي اختُزلت في شق الطرق والكباري.
وأمام هذا الطوفان من الانتهاكات، لم يجد بعض المسؤولين الشرفاء بدًا من القفز من المركب. فقد تقدم المهندس أيمن ونس، رئيس اللجنة الدائمة لحصر المباني المتميزة بشرق القاهرة، باستقالة مسببة وجريئة، معلنًا فيها "عدم جدوى" عمل لجنته في ظل استمرار حملات الإزالة التي لا تقيم وزنًا لقرارات الحصر أو القيمة الفنية، مما يثبت أن قرار الهدم هو قرار "سياسي وأمني" بامتياز، لا علاقة له بالرأي الفني أو العمراني.
ثورة غضب رقمية: "شكرًا يا مصر.. هدمتم الأخلاق قبل الحجر"
لم يمر خبر هدم مقبرة أمير الشعراء مرور الكرام، بل أشعل موجة غضب عارمة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحولت صفحات النشطاء والمثقفين إلى سرادق عزاء مفتوح، ليس لأحمد شوقي، بل لما تبقى من "كرامة ثقافية" لهذا البلد.
صفحة "جبانات مصر" نعت الحدث بكلمات تقطر مرارة، واصفة عام 2025 بأنه "الأسوأ على تراث مصر"، ومؤكدة أن إزالة قبر شوقي هي "الخاتمة الحزينة" لهذا العام الكارثي.
الصحفية زينب وجهت رسالة لاذعة باللغة الإنجليزية، متسائلة عما سيقوله الدكتور خالد العناني، مرشح مصر لليونسكو، للعالم وهو يرى تراث بلاده يُباد بهذه الطريقة الفجة.
#انقذوا_جبانات_مصر
— Zeinobia 🎙️📷📓🍉 (@Zeinobia) December 23, 2025
ازالة قبر و جبانة احمد شوقى بك الله رحمه
They removd th cemetry of Ahmed Shawky , the Prince of Arab poets in the first half of the 20th century ..I hope Dr Khaled Anani got good explanation and defense for this massacre against world heritge in the upcoming… pic.twitter.com/iVu36gtB1q
أما حساب "ديوان المعماريين" فقد اختار الرد بشعر شوقي نفسه، مقتبسًا بيته الخالد: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، في إشارة بليغة إلى أن هدم المقبرة هو سقوط أخلاقي قبل أن يكون معماريًا.
هدم مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي
— ديوان المعماريين (@diwanegy) December 24, 2025
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا pic.twitter.com/vVSWg3GhcI
المغرد "سحس" عبر عن غضبه الشعبي العفوي، مذكرًا بأن شوقي هو "أفضل شاعر ناطق بالعربية في آخر ألف سنة"، وصاحب أروع المدائح النبوية، داعيًا الله أن ينتقم ممن أهان هذا الرمز.
احمد شوقي اللي تمت اهانته دة افضل شاعر ناطق بالعربية آخر الف سنة و كان بيحب البلد دي حب اسطوري و هو صاحب افضل قصيدة في مدح سيدنا رسول الله علي الاطلاق ،،، ربنا ينتقمله منكم يارب
— S7s (@S7STalin) December 24, 2025
واختصرت "وسام" الموقف كله في جملة واحدة تحمل كل معاني الخذلان: "تم هدم مدفن أمير الشعراء والشعر أحمد شوقي.. شكرًا يا مصر".
إن هدم مقبرة أحمد شوقي ليس نهاية المطاف، بل هو جرس إنذار مرعب لما هو قادم. فإذا كان "أمير الشعراء" لم يشفع له لقبه ولا تاريخه ولا وعود الحكومة، فمن يضمن بقاء أي أثر آخر في مصر؟ إنها رسالة واضحة بأن "البلدوزر" هو الحاكم الفعلي، وأن الذاكرة عبء يجب التخلص منه لفسح الطريق أمام "الجمهورية الجديدة" التي يبدو أنها تُبنى بلا ماضٍ، وبلا روح.

