لم تكن التعديلات الأخيرة على قانون الإيجار القديم مجرد نصوص قانونية جافة نُشرت في الجريدة الرسمية، بل تحولت فور تطبيقها إلى معاول هدم تعصف باستقرار آلاف الأسر المصرية. فبين ليلة وضحاها، وجد قطاع واسع من المصريين – خاصة صغار الكسبة وأصحاب المعاشات – أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: إما الدفع بمبالغ تفوق طاقة احتمالهم، أو الطرد إلى المجهول.

 

هذه "المذبحة الاجتماعية" التي ترعاها حكومة الانقلاب تحت لافتة "تحرير العلاقة الإيجارية"، تجاهلت تماماً الأبعاد الإنسانية، وتركت المواطنين العزل يواجهون مصيرهم في ظل غلاء فاحش وتآكل للطبقة الوسطى، ودون توفير أي بدائل سكنية أو تجارية آدمية.

 

"عم صابر".. ورشة عمرها 40 عاماً أغلقها "قانون الـ 5 أضعاف"

 

في أحد أزقة منطقة وسط البلد، يجلس "عم صابر"، الستيني الذي أفنى عمره في ورشة صغيرة لتصليح الساعات، أمام باب ورشته المغلق والدموع تتحجر في عينيه. قصته تختصر مأساة آلاف الحرفيين الذين شملهم قرار رفع إيجار الوحدات التجارية والمهنية إلى 5 أضعاف القيمة الحالية.

 

يقول الرجل بصوت مبحوح: "إيجار الورشة كان 150 جنيهاً، وكنت بالكاد أوفر قوت يومي وعلاج زوجتي في ظل كساد السوق. فجأة، وبجرة قلم من الحكومة، أصبح الإيجار 750 جنيهاً، مع زيادة سنوية 15%. من أين آتي بهذه الأموال والزبائن عزفوا عن التصليح؟".

 

اضطر صابر لتسليم المفتاح للمالك وإغلاق باب رزقه الوحيد، لينضم إلى طوابير العاطلين، ضحية لقرار حكومي تعامل مع الورش الصغيرة وكأنها شركات استثمارية كبرى، متجاهلاً أن هؤلاء هم عصب الاقتصاد الشعبي الذي سحقته الدولة.

 

"الأرملة سعاد".. الخوف من الطرد بذريعة "الشقة المغلقة"

 

على الجانب السكني، تعيش "الحاجة سعاد"، أرملة سبعينية تقيم في حي شبرا، كابوساً يومياً بسبب المادة السابعة من القانون التي تبيح الطرد في حال "غلق السكن". تقول السيدة إنها تضطر أحياناً للسفر لتقيم مع ابنتها لرعايتها بعد الولادة أو للعلاج، لكنها فوجئت بإنذارات ومحاولات من المالك لإثبات أن شقتها "مغلقة" لانتزاع حكم بطردها.

 

تصرخ السيدة قائلة: "هذا بيتي وبيت أولادي، الحكومة فتحت علينا باب جهنم. المالك يترصد تحركاتي، ويحاول إثبات أنني أملك سكناً بديلاً عند ابنتي لطردي. أين أذهب في هذا العمر؟ هل تريد الدولة أن ترمينا في الشارع؟". تعكس حالة سعاد الرعب الذي يعيشه كبار السن الذين لا يملكون القدرة الصحية أو المادية على خوض معارك قضائية لإثبات حقهم في البقاء بمنازلهم التي سكنوها لعقود.

 

"عيادة الغلابة".. الطبقة المتوسطة تدفع الثمن

 

لم يسلم المهنيون من المقصلة؛ الدكتور "عصام"، طبيب باطنة في منطقة شعبية، ورث عيادته عن والده بعقد إيجار قديم. العيادة كانت تخدم أهالي المنطقة بأسعار رمزية (كشف 50 جنيهاً). مع تطبيق الزيادة الجنونية للإيجار الإداري والمهني، وجد الطبيب نفسه مضطراً لرفع قيمة الكشف بشكل كبير لتعويض الزيادة في الإيجار والكهرباء والخدمات.

 

يقول عصام: "المريض هو من يدفع الثمن في النهاية. الحكومة رفعت يديها عن كل شيء، وأجبرتنا على الدخول في صراع بقاء. كنت أرحم المرضى، لكن القانون الجديد لم يرحمني". وأشار إلى أن عدداً من زملائه أغلقوا عياداتهم ومكاتب المحاماة الخاصة بهم لأن الدخل لم يعد يغطي نفقات الإيجار الجديد والزيادات السنوية المتراكمة، مما يؤدي لتجريف الأحياء الشعبية من الخدمات الأساسية بأسعار معقولة.

 

إن هذه القصص ليست حالات فردية، بل هي نتاج سياسة دولة قررت أن تحل أزماتها الاقتصادية من جيوب الفقراء، محولة حق السكن والعمل إلى سلع لمن يدفع أكثر، وسط غياب تام لشبكات الأمان الاجتماعي.