في الجمعة القادمة سيصعد الخطيب إلى المنبر ليتحدث عن «حرمة المال العام» و«خيانة من يمد يده إلى أموال الدولة»، لكن البوصلة ستكون موجهة بالكامل نحو المواطن البسيط والموظف الصغير، لا نحو الحاكم الذي أهدر مئات الملايين من اليورو على طائرة رئاسية فاخرة.
هذا الاستخدام الانتقائي للخطاب الديني يحوّل المنبر من صوتٍ للحق والعدل إلى أداة لتخويف الناس وإسكات غضبهم، بينما يظل إنفاق السلطة الباذخ خارج أي مساءلة دينية أو أخلاقية. في بلد تزداد فيه الفجوة بين قصور الحكم وطوابير الفقر، يصبح الصمت عن «القصر الطائر» جريمة مضاعفة.
طائرة بنصف مليار دولار وخطبة ضد «الموظف الصغير»
المفارقة الصارخة أن طائرة السيسي الجديدة من طراز بوينج 747-8، المعروفة بـ«ملكة السماء»، تقدَّر قيمتها بما يقارب 487–500 مليون دولار، مع تقديرات معارضة ترفع الرقم إلى نحو 800–900 مليون دولار بعد حساب تجهيزات تصل وحدها إلى مئات الملايين.
هذا المبلغ – الذي يعادل مليارات الجنيهات – يُنفق في بلد يطلب من مواطنيه التقشف، ويرفع عنهم الدعم، ويغرقهم في موجات غلاء وضرائب ورسوم جديدة.
بدل أن تكون خطبة «حرمة المال العام» مناسبة لطرح سؤال: من الذي أهدَر نصف مليار دولار على طائرة رئاسية بينما المستشفيات بلا تجهيز، والمدارس بلا إمكانات؟ تتحول الخطبة إلى درس أخلاقي في جلد الضعفاء، وكأن موظفًا اختلس بضع آلاف هو الخطر الأكبر، لا رئيس يوقع على صفقة قصر طائر.
صمت الدولة عن الطائرة… وصرخة السوشيال والإعلام المستقل
الدولة بأذرعها الإعلامية والدينية تتجاهل الحديث الجاد عن هذه الطائرة، لكن على الطرف الآخر توثّق منصات مستقلة حجم الكارثة بالأرقام والشهادات.
قناة «مصر النهاردة» مع الإعلامي محمد ناصر عرضت أكثر من مرة تقديرات لتكلفة الطائرة، مشيرة إلى أن الثمن الأساس يقارب 500 مليون دولار، وأن تجهيزات الأمن والفرش الداخلي قد ترفع الإجمالي إلى 700–900 مليون دولار، مع تكلفة تشغيل تصل لعشرات الآلاف من الدولارات لكل ساعة طيران.
تقارير صحفية مثل «يورونيوز» و«عربي21» و«وطنا اليوم» أكدت أن الطائرة من فئة 747-8i قُدِّرت بحوالي 487 مليون دولار، وأثارت جدلاً واسعًا على مواقع التواصل حول منطق شراء طائرة بهذه الكلفة في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
فيديوهات مسرّبة وصور متداولة أظهرت الطائرة من الداخل كأنها «قصر طائر»، ما فاقم الغضب الشعبي وشعور الناس بأن أموالهم تُحرق في السماء بينما يُطلب منهم شد الأحزمة.
خطب عن «المال العام» تُستخدم لقهر الناس لا لمحاسبة السلطة
الخطاب الديني الرسمي يملك تراثًا غنيًا في التحذير من التعدي على المال العام، وخطب كثيرة على يوتيوب ومواقع الخطباء تتحدث عن أن المال العام «أشد حرمة من المال الخاص» وأن استغلال المنصب للنهب والفساد جريمة عظمى.
لكن في الواقع العملي، تُستدعى هذه النصوص غالبًا عندما تريد السلطة ضبط الشارع: خطب عن «العامل الذي يسرق من وقته» و«الموظف الذي يأخذ ورقة أو قلما من المصلحة»، بينما لا تُذكَر أسماء الكبار الذين يوقّعون على صفقات بمئات الملايين من الدولارات بلا شفافية.
بهذا يُستخدم الدين كسوط على ظهر الفقير، لا كميزان عدل يُسائل الحاكم قبل المحكوم، ورقيب على القصور قبل الدواوين. تجاهل الطائرة الرئاسية في خطبة عن «حرمة المال العام» ليس سهوًا بريئًا، بل اختيار سياسي واضح لحماية رأس السلطة من أي نقد أخلاقي.
منابر تبرّر البذخ وتحوّل الضحية إلى متهم
إعلام السلطة، بدل أن يسائل الصفقة، انشغل بتبريرها بوصفها ضرورة أمنية ورمزًا لـ«هيبة الدولة»، وظهر نواب وإعلاميون يدافعون عنها ويقللون من التكلفة أو يبررونها بأنها «بالتقسيط». في المقابل، وثّقت تغريدات وشبكات مثل «رصد» ووسائل عربية معارضة أن ثمن الطائرة يقترب من نصف مليار دولار، وأن انتقادات واسعة انفجرت على السوشيال ترفض هذا البذخ على حساب قوت الناس.
حين تتلاقى هذه المنظومة الإعلامية مع خطاب ديني رسمي يجرّم المواطن الصغير ويتجاهل القصور الطائر، تصبح الصورة كاملة: دولة تحوّل الدين إلى أداة ترويض، وتحوّل الإعلام إلى جهاز تجميل، وتترك المجتمع وحيدًا في مواجهة الفقر والديون، ثم تلومه من فوق المنبر إذا تجرأ على الغضب.
وأخيرًا.. طائرة تحلّق فوق نصوص الدين والعدل
صفقة «ملكة السماء» تكشف أن المشكلة ليست فقط في إهدار مئات الملايين من اليورو على طائرة رئاسية، بل في منظومة كاملة تصمت عن هذا الإهدار وتُلبسه ثوب الشرعية الدينية والأمنية. السيسي وحكومته يتحملون المسؤولية الأولى عن هذا العبث بالمال العام، لكن مشاركة بعض المنابر الدينية في التغطية على الفضيحة عبر خطب تُدين الضعفاء وتتجاهل القصور الطائر تجعل الجريمة مركّبة.
إذا كان المال العام «أمانة» كما يقال على المنابر، فإن أول من يجب أن يُسأل عنها هو من يملك سلطة التوقيع على نصف مليار دولار لطائرة واحدة، لا موظف بسيط يأخذ ورقة من المخزن. ما لم يتحول المنبر إلى صوت للمظلوم لا سوط عليه، وما لم تُستخدم النصوص الدينية لمحاسبة الحاكم قبل المحكوم، ستظل الطائرة تحلّق فوق رؤوس المصريين كرمز لسلطة تهدر أموالهم وتستخدم الدين لإسكاتهم، لا لإنصافهم.

