في حلقة جديدة من مسلسل "قطارات الموت" الذي يأبى أن ينتهي في مصر، استيقظ أهالي مطروح والساحل الشمالي اليوم، الاثنين، على كارثة جديدة كادت تودي بحياة المئات، بعد خروج قطار ركاب عن مساره إثر اصطدامه بسيارة نقل ثقيل محملة بأعمدة حديدية ضخمة. الحادث الذي وقع بين محطتي الضبعة وجلال، لم يكن مجرد "قضاء وقدر" كما يحلو لإعلام النظام أن يروج، بل هو دليل دامغ جديد على فشل منظومة السكك الحديدية التي أنفقت عليها الدولة المليارات من جيوب المصريين والديون الخارجية، لتنتهي النتيجة بمزيد من الدماء والحديد المنصهر على القضبان.
وبينما يتفاخر النظام ليل نهار بالقطارات الكهربائية السريعة والمونوريل الذي يخدم العاصمة الإدارية، لا تزال قطارات الغلابة التي تخدم أهالي المحافظات الحدودية والنائية تعاني من الإهمال الجسيم، وتُترك نهبًا للعشوائية التي وصلت إلى حد أن تقطع سيارات النقل المحملة بمواد بناء "المشروعات القومية" مسار القطارات، مهددة سلامة الركاب ومحولة رحلاتهم اليومية إلى مشاريع موت محتمل.
تفاصيل الكارثة: قطار 299 في مواجهة "حديد المشروعات"
تشير التفاصيل المتاحة، وفق ما نشرته صحف محلية ومصادر بالسكة الحديد، إلى أن الحادث وقع للقطار رقم 299 (ركاب/ مطروح - محرم بك)، أثناء مروره في المنطقة الواقعة بين محطتي الضبعة وجلال. المفارقة المؤلمة أن "الأداة" التي تسببت في الكارثة لم تكن إرهابًا ولا عوامل طبيعية، بل كانت سيارة نقل ثقيل محملة بأعمدة حديدية ضخمة مخصصة لأحد المشروعات الإنشائية في المنطقة.
السيارة اعترضت مسار القطار، ما أدى إلى اصطدام مروع أسفر عن خروج إحدى العربات (أو أكثر) عن القضبان وتوقف الحركة تمامًا على الخط. الصور الأولية من موقع الحادث تظهر حجم الدمار والرعب الذي عاشه الركاب، في مشهد يعكس غياب أدنى معايير الأمان في مناطق العمل المتاخمة لخطوط السكك الحديدية. إن السماح لسيارات النقل الثقيل بعبور شريط السكة الحديد في مناطق غير مؤمنة، أو دون تنسيق مع حركة القطارات، يعد جريمة إهمال جسيم تتحمل مسؤوليتها الشركات المنفذة والجهات الرقابية في وزارة النقل.
مليارات الديون.. أين ذهبت أموال "تطوير الإشارات"؟
يفتح هذا الحادث الباب واسعًا للتساؤل عن جدوى القروض المليارية التي اقترضتها حكومة الانقلاب بدعوى "تطوير منظومة الإشارات" و"تحديث المزلقانات". لسنوات طويلة، صدّع وزير النقل رؤوس المصريين بحديثه عن ميكنة الإشارات وإلغاء المزلقانات العشوائية، لكن الواقع على الأرض يؤكد أن هذه التطويرات تركزت في مناطق "الواجهة" والبنية التحتية التي تخدم المستثمرين، بينما تُركت خطوط الضواحي والمحافظات (مثل خط مطروح) فريسة للإهمال.
كيف لقطار يسير في منطقة مكشوفة كالضبعة أن يصطدم بسيارة نقل؟ أين أنظمة الأمان الأوتوماتيكية (ATC) التي قيل إنها ستوقف القطار آليًا عند وجود عوائق؟ الحقيقة المرة أن هذه الأنظمة إما غير مفعلة، أو غير موجودة أساسًا في هذه القطاعات المهمشة، مما يجعل حياة المواطن المصري أرخص من تكلفة تركيب بوابة إلكترونية أو تعيين خفير مزلقان.
"مشروعاتهم" تقتل "ركابنا".. العشوائية الإدارية القاتلة
الأكثر استفزازًا في هذا الحادث هو أن الشاحنة المتسببة فيه كانت تنقل مواد لأحد "المشروعات"، وهو ما يشير بأصابع الاتهام إلى حالة "السعار الإنشائي" التي تتبناها الدولة، حيث يتم تنفيذ الطرق والكباري والمدن الجديدة بسرعة جنونية، دون مراعاة لتدابير السلامة المهنية أو تأمين تقاطعات هذه المشروعات مع خطوط السكك الحديدية الحيوية.
إن تداخل مسارات شاحنات النقل الثقيل الخاصة بالمشاريع القومية مع خطوط السكك الحديدية، دون رقابة صارمة، حول هذه الشاحنات إلى قنابل موقوتة. فبدلًا من أن تكون هذه المشروعات وسيلة لرفاهية المواطن، أصبحت أدوات لقتله، سواء تحت عجلات النقل الطائشة على الطرق، أو باعتراض مسار قطاراته على القضبان. هذه الحادثة ليست فردية، بل هي عرض لمرض عضال في إدارة الدولة، حيث السرعة "اللقطة" تسبق الأمان، وحيث حياة المواطن تأتي دائمًا في ذيل قائمة الأولويات.

