في تطور أمني خطير يعيد خلط الأوراق في البادية السورية، ويضع الترتيبات الأمنية الجديدة بين واشنطن ودمشق على المحك، استفاقت مدينة تدمر الأثرية وسط سوريا على وقع هجوم دامٍ استهدف القوات الأمريكية المتمركزة ضمن مهام التحالف الدولي.

 

الحادث الذي أسفر عن مقتل ثلاثة أمريكيين (جنديين ومترجم مدني) وإصابة آخرين، لم يكن مجرد هجوم عابر لخلايا تنظيم "داعش"، بل كشف عن ثغرات خطيرة وتضارب في التقديرات الأمنية بين القوات المحلية وقيادة التحالف، وسط اتهامات صريحة بتجاهل تحذيرات مسبقة كان من الممكن أن تحقن الدماء.

 

وعقب الهجوم مباشرة، أطلقت قوات مشتركة أمريكية وسورية حملة تفتيش واسعة النطاق في أحياء تدمر ومحيطها الصحراوي، في محاولة لتعقب خيوط العملية ومنع أي هجمات ارتدادية، وسط حالة من الاستنفار القصوى.

 

تفاصيل "الكمين" في الموقع المحصن

 

وفقاً للرواية الرسمية التي أعلنها المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، وقع الهجوم في نقطة كان يُفترض أنها الأكثر أماناً، وتحديداً عند مدخل مقر محصن تابع لقيادة الأمن الداخلي. الحادث وقع غدراً بعد انتهاء جولة تنسيقية مشتركة بين الجانبين، مما يشير إلى جرأة غير مسبوقة من المنفذين واختراق أمني دقيق للتوقيتات.

 

وقد أسفر الاشتباك عن مقتل جنديين أمريكيين ومترجم مدني متعاقد مع الجيش الأمريكي، بالإضافة إلى إصابة ثلاثة جنود آخرين تم التأكد من استقرار حالتهم لاحقاً. وفي المقابل، دفعت القوات السورية ضريبة الدم أيضاً بإصابة عنصرين من قوى الأمن الداخلي التي تمكنت، رغم المفاجأة، من الرد السريع وتحييد منفذ الهجوم وقتله في عين المكان.

 

لغز "التحذيرات المنسية".. هل تكبر التحالف؟

 

النقطة الأكثر إثارة للجدل في هذا الحادث تمثلت في التصريحات النارية للمسؤول السوري "البابا"، الذي كشف عن فجوة تنسيقية خطيرة. فقد أكد أن قيادة الأمن الداخلي السورية لم تكن غافلة عما يُحاك، بل وجهت "تحذيرات مسبقة" ومحددة للقوات الشريكة في التحالف الدولي. هذه المعلومات الاستخباراتية كانت تشير بوضوح إلى احتمالية وقوع خرق أمني أو هجمات تشنها خلايا "داعش" النائمة.

 

الصادم في الأمر، بحسب الرواية السورية، هو أن "هذه التحذيرات لم تؤخذ بالاعتبار" من قبل الجانب الأمريكي. هذا التجاهل يطرح تساؤلات مشروعة حول آلية التعاطي الأمريكي مع المعلومات الاستخباراتية المحلية، وهل كان هناك استخفاف بحجم التهديد في منطقة معقدة جغرافياً وأمنياً مثل تدمر؟

 

وفيما يخص هوية المنفذ، قطعت الداخلية السورية الشك باليقين، مؤكدة عبر تحقيقاتها الأولية أنه لا يملك أي صفة قيادية داخل الأمن الداخلي ولا يعمل مرافقاً للقيادة، ويجري حالياً فحص خلفياته للتأكد من عمق ارتباطه بتنظيم الدولة أو تشبعه بفكره المتطرف.

 

ترامب يتوعد عبر "تروث سوشيال": الرد قادم

 

من جانبه، لم يتأخر الرد السياسي من واشنطن. فقد خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحات غاضبة عبر منصته "تروث سوشيال"، ناعياً من وصفهم بـ "الأبطال الأمريكيين الثلاثة". ترامب، الذي عاد للبيت الأبيض بخطاب قوي ضد الإرهاب، وضع النقاط على الحروف بتحديد المسؤولية المباشرة لتنظيم "داعش" عن الهجوم.

 

وقال ترامب في تدوينته: "كان هذا هجومًا شنّه تنظيم داعش ضد الولايات المتحدة وسوريا، في منطقة بالغة الخطورة خارجة عن سيطرتهم الكاملة". هذا الاعتراف الرئاسي بصعوبة السيطرة على المنطقة يمهد الطريق لعمليات عسكرية انتقامية قد تكون واسعة النطاق، حيث تعهد بأن الولايات المتحدة "سترد" على هذا التطاول، مما ينذر بتصعيد عسكري وشيك في العمق السوري.

 

تدمر.. الجرح الذي لا يندمل

 

يعيد هذا الهجوم إلى الأذهان الحقبة السوداء التي عاشتها "عروس الصحراء". فمدينة تدمر ليست مجرد رقعة جغرافية، بل هي رمز لمأساة التراث والإنسان في سوريا. سيطر عليها تنظيم داعش مرتين بين عامي 2015 و2016، وحول مسرحها الأثري إلى ساحة للإعدامات المروعة، ونسف معالمها التاريخية التي صمدت لآلاف السنين.

 

ورغم الهزيمة العسكرية للتنظيم عام 2019 وانهيار "خلافته" المزعومة أمام ضربات التحالف الدولي والقوات الحكومية المدعومة روسياً آنذاك، إلا أن "بادية الشام" ظلت الملاذ الآمن والحديقة الخلفية التي تتحرك فيها "الذئاب المنفردة". الهجوم الأخير يؤكد أن داعش انتقل من استراتيجية "مسك الأرض" إلى استراتيجية "الاستنزاف الأمني" والضربات الخاطفة في المناطق الرخوة.

 

سياق سياسي جديد: دمشق في قلب التحالف

 

يكتسب هذا الحدث أهمية استثنائية بالنظر إلى التوقيت السياسي؛ إذ يأتي بعد شهر واحد فقط من التحول الاستراتيجي الكبير المتمثل في انضمام دمشق رسمياً إلى التحالف الدولي ضد داعش. هذه الخطوة التي تبلورت خلال زيارة الرئيس السوري "الشرع" إلى واشنطن، كانت تهدف لتوحيد البنادق ضد الإرهاب.

 

إلا أن الهجوم الأخير، وما رافقه من حديث عن تجاهل التحذيرات، قد يلقي بظلال من الشك على فعالية هذا التنسيق الميداني. تنتشر القوات الأمريكية تقليدياً في الشرق (مناطق الأكراد) وقاعدة التنف جنوباً، لكن العمليات المشتركة في "الوسط السوري" وتدمر تعد تطوراً نوعياً في خريطة النفوذ، ويبدو أن ثمن هذا التوسع سيكون باهظاً ومحفوفاً بالمخاطر.