تشهد مصر واحدة من أوسع موجات الاحتجاجات العمالية خلال السنوات الأخيرة، حيث انفجرت غضبًا مكبوتًا في قطاعات تمتد من المياه والنقل والنسيج حتى الأمن والرياضة، مدفوعة بانهيار القوة الشرائية وتدهور الأجور وغياب العدالة الوظيفية.
تكشف هذه الاحتجاجات عن واقع اقتصادي مأزوم، تمارس فيه المؤسسات تجاه العمال مزيجًا من التجاهل والانتهاك، بينما تلجأ أجهزة الأمن إلى الترهيب بدلًا من الحل، ما يجعل التوتر الاجتماعي مرشحًا لمزيد من التصاعد. هذا الحراك ليس مجرد مطالب فئوية؛ بل هو مؤشر على انهيار المنظومة الحامية لحقوق العمال، واتساع الفجوة بين الأجور وأسعار الحياة اليومية.
اتساع رقعة الاحتجاجات في قطاع المياه
اتخذت احتجاجات عمال شركة مياه الشرب والصرف الصحي في القاهرة منحًى غير مسبوق، بعد أن امتدت إلى نحو ثلاثين موقعًا بين شبكات وفروع خدمة عملاء ومخازن، إضافة إلى المقر الرئيسي في شارع رمسيس الذي شهد تواجدًا أمنيًا كثيفًا. رفع العمال لافتات وصورًا للرئيس عبد الفتاح السيسي، في تعبير واضح عن اليأس من القيادات الوسطى والرغبة في تدخل مباشر.
تركزت مطالبهم على صرف العلاوات المتأخرة منذ 2017، وتطبيق الحد الأدنى للأجور بشكل عادل يراعي التدرج الوظيفي، إلى جانب صرف الأرباح، وزيادة بدلات الغذاء والانتقال، وتسوية المؤهلات، وتثبيت العمالة المؤقتة، وتحسين الخدمات الطبية.
في قلب هذه المطالب تقف دعوة صريحة لإقالة نائب رئيس مجلس الإدارة للشؤون المالية والإدارية علي عماشة، الذي يُتَّهم بعرقلة تنفيذ القرارات الحكومية وحرمان العمال من حقوقهم المالية. الأزمة الأكثر إثارة للغضب بين العمال هي تساوي رواتب أصحاب الخبرة الممتدة لثلاثة عقود مع الموظفين الجدد، فضلًا عن فجوة الأجور الكبيرة بينهم وبين عمال الشركة القابضة.
تاريخ من الاحتجاجات المتراكمة
هذه الاحتجاجات ليست معزولة عن سياق ممتد؛ فعمال مياه الإسكندرية خرجوا في يوليو الماضي للمطالبة بضم علاوات متأخرة منذ 2016. وفي مارس، نظم محصلو الفواتير وقارئو العدادات في القليوبية وقفات متزامنة للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور وعقود عمل شاملة.
هذا التراكم الزمني يشير إلى نمط ثابت: مطالب شرعية تُهمل لسنوات، وقيادات إدارية تتعامل مع الأزمات بمنطق التسويف، وغياب رقابة حكومية تمنع تفاقم الخلل.
أزمة بولفارا: مأساة صحية واجتماعية
في الإسكندرية، كشفت «المفوضية المصرية للحقوق والحريات» عن انتهاكات خطيرة للحق في العلاج لقرابة 1200 عامل في شركة بولفارا للغزل والنسيج، حُرموا من الخدمات الصحية لأكثر من شهر بسبب توقف الشركة عن سداد اشتراكات التأمين الصحي منذ 2018، ما تسبب في مديونية تتجاوز 158 مليون جنيه.
إضراب محدود لساعات داخل الشركة كان بمثابة صرخة يأس، بعد أربعين يومًا من الوعود غير المنفذة. ورغم تعهدات الإدارة بتوفير حل مؤقت عبر التعاقد مع طبيبين، فإن التنفيذ كان شكليًا؛ إذ مُنح العمال شرائط دواء تكفي أسبوعًا واحدًا فقط من احتياجاتهم الشهرية.
الأزمة تكشف انهيار الدور النقابي أيضًا، بعد ضغوط مورست على العمال لإنهاء الاحتجاج، في انحياز واضح للإدارة. أما الحد الأدنى للأجور، فتجاهلته الشركة، مثبتة الأجر عند 6000 جنيه بدلًا من 7000، مع تجاهل تام للتدرج الوظيفي.
قطاع الغزل والنسيج: نموذج لتفكيك متواصل
ما يحدث في بولفارا يسير على خطى شركة وبريات سمنود في الغربية؛ شركتان كانتا عملاقين صناعيين قبل الخصخصة، ثم انتهتا إلى تقليص العمالة وتدهور الإنتاج وبيع الأصول دون تدخل حكومي فعال.
التساؤل الجوهري هنا: كيف تتجاهل الدولة شركات كانت تمثل حجر أساس للاقتصاد الوطني، بينما تعلن خططًا كبرى لإصلاح القطاع دون تطبيق عملي؟
الواقع يظهر أن الخصخصة تمت دون حماية العمال، وأن التدهور لم يكن صدفة، بل نتيجة مسار طويل من الإهمال وإدارة الأزمات بالمسكّنات.
احتجاجات القناة للسفن: ضربة جديدة لبيئة العمل
في بورسعيد، دخل 1500 عامل في شركة القناة لرباط وأنوار السفن في إضراب شامل احتجاجًا على تعديلات لائحة تقلص أرباحهم بنسبة 25%، وتحول صرفها إلى سنوي بدءًا من 2027، إلى جانب خفض الحافز الشهري من 15% إلى 10%.
هذه الإجراءات تمثل مساسًا مباشرًا بأجور العمال في وقت تتزايد فيه الأسعار بوتيرة قياسية، ما أدى لانفجار الغضب داخل الشركة التي تتبع هيئة قناة السويس، أحد أهم القطاعات الاقتصادية للدولة.
عمال الأمن في مدينتي: ساعات عمل بلا مقابل
رصدت «لجنة العدالة» احتجاجًا لعمال الأمن في مشروع “مدينتي” التابع لمجموعة طلعت مصطفى، مطالبين بوقف تشغيلهم 12 ساعة يوميًا دون أجر إضافي، وزيادة بدل الوجبة من 30 جنيهًا، ورفع المكافأة السنوية إلى 90%، وتحويل العقود إلى دائمة.
رغم أن رواتبهم تتراوح بين 6 و8 آلاف جنيه، فإن بقاءهم 23 يومًا في سكن الشركة يجعل الجزء الأكبر من دخلهم يذهب للطعام. هذه المطالب تكشف هشاشة أوضاع العاملين في القطاع الخاص، وغياب حماية قانونية فعلية في مواقع العمل.
ترهيب أمني في أسوان
في مصنع سكر إدفو، استدعى الأمن الوطني عشرة عمال وهددهم من مغبة الإضراب، رغم اعتراف ضابط مسؤول بأحقيتهم في مطالبهم. هذه الواقعة تعكس سياسة مقلقة: معالجة الأزمات الاجتماعية بالتهديد لا بالحلول، ما يفاقم التوتر ويغلق باب الحوار.
احتجاجات النادي الأهلي: عدالة غائبة
في القاهرة، نظم عمال النادي الأهلي وقفات في عدة فروع للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، بينما يحصل اللاعبون والإداريون الكبار على أجور بملايين الجنيهات.
اعتبرت «المفوضية المصرية للحقوق والحريات» عدم تطبيق النادي للحد الأدنى خرقًا واضحًا لقانون العمل، وهو ما يثير تساؤلات حول المعايير المزدوجة في واحدة من أكبر المؤسسات الرياضية بالبلاد.
انفجار اجتماعي في ظل ضغوط اقتصادية ساحقة
تأتي هذه التحركات العمالية في وقت يشهد الاقتصاد المصري موجة تضخم غير مسبوقة، تآكلت معها قيمة الرواتب، وفُقدت الثقة في المؤسسات الرقابية، واتسع الشعور بالظلم بين العمال.
ما يجري ليس مجرد “مطالب مهنية”، بل مؤشر لانهيار منظومة العدالة الاجتماعية، وتآكل الأمان الوظيفي، وغياب تدخل حكومي قادر على معالجة الجذور لا الأعراض.
وإذا استمر التجاهل، فإن مصر تقف على أعتاب مرحلة يغدو فيها الاحتجاج هو الوسيلة الوحيدة المتبقية للعمال للدفاع عن حقهم في حياة كريمة.

