أصدرت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان تقريراً جديداً يرصد ما وصفته بـ"الجمود القضائي غير المسبوق" في عمل غرفة المشورة بمحكمة جنايات القاهرة، بعد مرور أكثر من 850 يوماً دون صدور أي قرار بإخلاء سبيل محتجز احتياطياً واحد، في قضايا سياسية أو أمنية.
هذا الغياب الكامل لقرارات الإفراج، بحسب التقرير، يعكس واقعاً صادماً لانهيار أحد أهم ركائز العدالة، ويكشف عن تغول الأجهزة الأمنية على سلطة القضاء وتحكمها في مصير آلاف المحتجزين.
قضاة بلا قرار.. ومحاكم تُدار من خارجها
يؤكد التقرير أن غرف المشورة، وهي الجهات القضائية المسؤولة قانوناً عن مراجعة أوامر الحبس الاحتياطي وتجديدها، تحولت في السنوات الأخيرة إلى مجرد حلقة شكلية في سلسلة إجراءات إدارية خالية من أي مضمون قضائي حقيقي.
ويشير التقرير إلى أن هذه الغرف لم تصدر أي قرار واحد بإخلاء سبيل معتقل سياسي منذ منتصف عام 2022، رغم تجاوز العديد من المحتجزين الحد الأقصى المنصوص عليه في المادة (143) من قانون الإجراءات الجنائية، والتي تقصر الحبس الاحتياطي على عامين كحد أقصى.
ويصف التقرير المشهد في قاعات محاكم بدر والعاشر من رمضان بأنه “مشهد موت العدالة في صمت”؛ حيث يتبدل القضاة وتتغير الهيئات، لكن النتيجة تبقى واحدة: تجديد تلقائي للحبس لمدة 45 يوماً دون مرافعة فعلية أو نقاش قانوني.
“ما تحرجوناش... القرار مش عندنا”
في مقدمة التقرير، استعادت الشبكة شهادة الوزير والمحامي كمال أبو عيطة الذي لخّص المأساة في عبارة واحدة: “إحنا بنحضر زي ما بنخش... زي ما بنطلع، ما تحرجوناش، الموضوع مش عندنا.”
كلمات أبو عيطة، التي تحولت إلى تعبير متداول بين المحامين وأهالي المعتقلين، تعكس جوهر الأزمة: قضاء مكبل، وقرارات تصدر بإشارات غير معلنة من الأجهزة الأمنية.
ويضيف التقرير أن هذه الجملة باتت الرد الضمني المتكرر من القضاة والمحضرين على أسئلة الدفاع حول أسباب استمرار الحبس، رغم خلو القضايا من أدلة أو استمرارها لسنوات دون إحالة للمحاكمة.
الاختصاص القانوني... والحقيقة الغائبة
يستعرض التقرير نصوص القانون التي تمنح غرفة المشورة صلاحية النظر في تجديد الحبس أو إلغائه، بل وتمنح القضاة سلطة تقديرية كاملة في إصدار قرارات الإفراج، دون تدخل من أي جهة.
لكن الواقع، وفق الشبكة، يقول شيئاً آخر؛ فالقضاة أنفسهم أصبحوا رهائن لتوجيهات الأجهزة السيادية، ما أفرغ دورهم من مضمونه وأفقد العدالة معناها.
ويضيف التقرير أن آخر قرار موثق بالإفراج كان بتاريخ 15 يوليو 2023 بحق كل من خالد سعيد عبد الحفيظ ومحمود علي محمد قطب في القضية رقم 95 لسنة 2023 أمن دولة عليا، ومنذ ذلك التاريخ وحتى لحظة إعداد التقرير، لم يصدر أي قرار مماثل.
“معلش مش بإيدينا”.. شهادات من قلب الجلسات
يقول أحد المحامين، وفق ما وثقته الشبكة: “ندخل الجلسات حاملين ملفات الدفاع، ونعلم مسبقاً أن القرار مكتوب قبل أن تبدأ الجلسة... ومع ذلك نحضر لأن هذا هو واجبنا”.
محامٍ آخر وصف الوضع بأنه “عبث قانوني ممنهج”، مؤكداً أن قرارات التجديد تصدر أحياناً دون حتى مثول المتهمين أمام القاضي، أو في غياب المحامين بسبب ضيق الوقت وكثرة القضايا المدرجة في اليوم الواحد.
وترصد الشبكة من خلال مراقبتها الدورية لجلسات بدر والعاشر من رمضان تكرار الجملة نفسها على ألسنة القضاة والمستشارين: “معلش... مش بإيدينا”،
وهي العبارة التي أصبحت، كما يقول التقرير، “خاتمة جلسات تجديد الحبس.
في ختام تقريرها، طرحت الشبكة المصرية مجموعة من الأسئلة التي تصفها بـ"الأسئلة المعلقة فوق ركام العدالة":
هل يُعقل أنه طوال عامين ونصف لم يوجد معتقل واحد استحق الإفراج؟ ،وكيف يستمر الحبس الاحتياطي إلى أجل غير مسمى، دون سند قانوني أو قضائي؟، ومن يملك القرار الحقيقي داخل قاعات المحاكم: القاضي أم ضابط الأمن الوطني؟، وهل ما زال القضاء المصري سلطة مستقلة أم أصبح واجهة لقرارات جاهزة تصدر من خارج أسوار العدالة؟
مطالب عاجلة لإحياء العدالة
أعربت الشبكة المصرية عن إدانتها الشديدة لاستمرار تعطيل العدالة، ودعت إلى:
إعادة النظر فوراً في أوضاع جميع المحتجزين احتياطياً على خلفية سياسية، تفعيل رقابة النيابة العامة على قرارات الحبس وتجديده، وتطبيق أحكام الدستور والقانون بما يضمن لكل إنسان حقه في الحرية والمحاكمة العادلة، وإنهاء تدخل الأجهزة الأمنية في قرارات القضاة وغرف المشورة.
واختتم التقرير برسالة حادة اللهجة: “إن بقاء آلاف الأبرياء خلف القضبان دون حكم قضائي عادل، هو إعلان صريح بموت العدالة في مصر، ووصمة على جبين من يفترض أنهم حراس القانون”.

