بعد أربعة عقود من الصراع الدموي بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK)، شهدت الأيام الأخيرة تطوراً تاريخياً في مسار عملية السلام، تمثل في إعلان الحزب انسحاب مقاتليه بالكامل من الأراضي التركية إلى شمال العراق، في خطوة وُصفت بأنها بداية مرحلة جديدة من التحول نحو العمل السياسي ونزع السلاح.

هذا الإعلان الذي تزامن مع تصريحات من قيادات الحزب وزعيمه المعتقل عبدالله أوجلان، فتح الباب أمام جدل واسع في الأوساط السياسية والإعلامية التركية حول مدى جدية الأطراف في المضي قدماً نحو تسوية نهائية لهذا النزاع الذي حصد أكثر من أربعين ألف قتيل منذ ثمانينيات القرن الماضي.

 

الانسحاب الكامل من الأراضي التركية

أعلن حزب العمال الكردستاني في مؤتمر صحفي عقد في جبال قنديل شمال العراق، أن مقاتليه بدأوا انسحاباً تدريجياً من الأراضي التركية، استجابة لقرار من مجلس الحزب وموافقة زعيمه أوجلان.

وأكد البيان أن الحزب قرر طي صفحة الكفاح المسلح وفتح صفحة جديدة من النضال السياسي داخل الأطر القانونية، في ما وصفته قياداته بـ “المسار الثاني لعملية السلام”.

وقد رافق هذا الإعلان مشاهد رمزية لعدد من المقاتلين أثناء عبورهم الحدود، ما اعتُبر دليلاً على جدية الخطوة، بينما أكدت مصادر كردية أن الانسحاب يشمل جميع وحدات الحزب داخل تركيا.

 

الموقف التركي الرسمي

رحبت الحكومة التركية بحذر بالإعلان، ووصفت الخطوة بأنها “فرصة تاريخية لتحقيق تركيا خالية من الإرهاب”، لكنها شددت على أن نجاح العملية يتطلب التزاماً حقيقياً من جانب الحزب بوقف العنف وتسليم السلاح.

وأكدت الرئاسة التركية أن أي حوار سياسي لن يتم ما لم يثبت الحزب أنه تخلى تماماً عن العمل المسلح.

في المقابل، حذّر مسؤولون في المعارضة من أن الحكومة قد تستخدم المسار الجديد لأغراض انتخابية، دون تقديم ضمانات حقيقية للأكراد أو تعديل القوانين المقيدة للحريات.

 

دور أوجلان والمطالب الكردية

يرى المراقبون أن عبدالله أوجلان، الزعيم المؤسس للحزب والمعتقل منذ عام 1999، لا يزال يلعب دوراً محورياً في هذا التحول، إذ تُدار أغلب قرارات الحزب بالتشاور معه عبر وسطاء.

وأكدت شخصيات قريبة من الحزب أن الإفراج عن أوجلان أو تحسين ظروف احتجازه يعد مطلباً رئيسياً لنجاح عملية السلام، معتبرين أن وجوده يمثل رمزاً لطمأنة الشارع الكردي وضمان التزام المقاتلين بالقرارات الجديدة.

من جانبها، طالبت قيادات الحزب الحكومة التركية بخطوات عملية تشمل الاعتراف الدستوري بالهوية الكردية، وإقرار اللغة الكردية في المؤسسات الرسمية، وتمكين الأحزاب ذات التوجه الكردي من المشاركة السياسية دون قيود.

 

التحديات أمام المسار الجديد

رغم التفاؤل الحذر، إلا أن العقبات ما زالت كثيرة. فملف سحب السلاح وتوثيقه دولياً لم يحسم بعد، كما أن هناك فصائل صغيرة تابعة للحزب لم تعلن بعد التزامها الكامل بالاتفاق.

إضافة إلى ذلك، يثير نقل المقاتلين إلى شمال العراق مخاوف من توترات محتملة مع حكومة إقليم كردستان العراق، أو من إعادة تموضع عسكري في المناطق الحدودية.

أما داخلياً، فإن ضعف الثقة بين الدولة والأكراد يشكل العائق الأكبر. فسنوات القتال الطويلة خلفت جروحاً عميقة في الذاكرة الجماعية، ولا يمكن تجاوزها إلا بخطوات ملموسة تعيد الثقة وتمنح الأكراد شعوراً بالمواطنة المتساوية.

 

آفاق المرحلة المقبلة

من المقرر أن يلتقي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال الأيام المقبلة بوفد من حزب الشعوب الديمقراطي الممثل السياسي للأكراد في البرلمان، لمناقشة آلية الانتقال من الحل الأمني إلى الحل السياسي.

كما تتجه الحكومة إلى طرح مشروع قانون جديد لتنظيم عملية “الدمج” ومنح العفو عن بعض عناصر الحزب غير المتورطين في جرائم دم.

في المقابل، دعا نشطاء أكراد إلى تشكيل لجنة مراقبة مستقلة تشرف على تنفيذ الانسحاب، وإلى إطلاق حوار مجتمعي شامل يضمن مشاركة القوى المدنية ومنظمات حقوق الإنسان، حتى لا تقتصر العملية على تفاهمات سياسية ضيقة بين أنقرة وقيادات الحزب.

وفي الختام يمكن القول إن ما حدث في أواخر أكتوبر 2025 يمثل أكبر خطوة منذ عقد نحو إنهاء الصراع الكردي التركي. فالانسحاب الكامل لحزب العمال من الأراضي التركية، إذا اكتمل، سيشكل لحظة فاصلة قد تفتح الباب أمام مصالحة تاريخية، لكنها في الوقت ذاته محفوفة بالمخاطر إذا لم تُترجم الأقوال إلى أفعال.

فنجاح هذا المسار يعتمد على إرادة سياسية حقيقية من الجانبين، وعلى استعداد الدولة لتقديم إصلاحات جوهرية تعترف بالتعدد القومي والثقافي داخل تركيا. ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً بأن تكون هذه المرة بداية سلام دائم بعد أربعين عاماً من الدماء والدموع.