في مشهد مأساوي جديد يعكس أزمة متجذّرة داخل جهاز الأمن المصري، شهدت قرية جريس التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، جريمة قتل بشعة راح ضحيتها الشاب محمد أسامة (28 عامًا) على يد أمين شرطة من جيرانه.
ورغم أن الحادثة بدت في بدايتها وكأنها "خلاف جيرة عادي"، إلا أن التفاصيل التي جرى التعتيم عليها إعلاميًا تكشف عن نمط متكرر من الانتهاكات التي يرتكبها بعض أفراد الشرطة ضد المواطنين دون خوف من المساءلة أو العقاب.
جريمة تبدأ بخلاف.. وتنتهي بطعنات قاتلة
تعود الواقعة إلى يوم الخميس الماضي، حين افتعل المتهم مشادة كلامية مع أسرة المجني عليه، قبل أن يتطور الخلاف سريعًا إلى اعتداء دموي استخدم فيه الجاني آلة حادة وسدّد بها طعنات نافذة إلى صدر ورقبة المهندس محمد أسامة، أردته قتيلًا في الحال.
وبحسب شهادات الأهالي، فإن الضحية كان معروفًا بين سكان القرية بأخلاقه الطيبة وحرصه الدائم على تجنب أي مشادات مع القاتل، الذي اعتاد على التحرش اللفظي والمضايقات المستمرة ضد عائلة المجني عليه.
بل إن محمد، وفق روايات أقاربه، كان يغيّر مسكنه أو حتى المسجد الذي يصلي فيه فقط لتفادي الاحتكاك بالقاتل، الذي واصل تهديداته لسنوات دون أي تدخل فعّال من الأجهزة الأمنية أو القيادات المحلية في القرية.
أمين شرطة متهم.. وذريعة المرض النفسي
ما لم تذكره معظم المواقع الإخبارية في تغطيتها الأولى، أن الجاني أمين شرطة، أي أنه أحد أفراد الجهاز الذي يفترض أنه وُجد لحماية الناس لا لتهديدهم.
اللافت أيضًا هو أن المتهم، فور ارتكابه الجريمة، حاول الاحتماء بادعاء المرض النفسي، وهي الذريعة التي باتت تتكرر في السنوات الأخيرة كلما تورط أحد الضباط أو أمناء الشرطة في جرائم قتل أو عنف ضد المواطنين.
هذا الادعاء لم يعد بريئًا في نظر كثير من المراقبين، إذ يُستخدم غالبًا كمدخل لتخفيف العقوبة أو إظهار الجاني في صورة "المريض الذي فقد السيطرة"، بينما تُغلق ملفات العدالة في صمت.
سلسلة متواصلة من جرائم السلطة
حادثة مقتل محمد أسامة ليست الأولى من نوعها، بل تأتي ضمن سلسلة طويلة من الجرائم التي تورط فيها ضباط وأمناء شرطة خلال العقد الأخير.
في أغسطس الماضي، على سبيل المثال، قتل ضابط زوجته في منطقة جناكليس بالإسكندرية، وقبلها بأشهر دَهس ضابط في مدينة مدينتي أسرة كاملة بسيارته، دون أن يلقى أي محاسبة جادة.
وفي مرسى مطروح، قُتل المواطن فرحات المحفوظي برصاص ضابط شرطة، أعقبها تصفية شابين في ظروف غامضة في أبريل الماضي، وكلها جرائم تكرس نمطًا واحدًا: الإفلات من العقاب حين يكون القاتل من حملة السلاح الميري.
دولة القانون... أم قانون "السادة والميري"؟
تكرار تلك الحوادث، وتجاهل وسائل الإعلام الرسمية الإشارة إلى هوية الجناة، يعكس خللًا مؤسسيًا خطيرًا في منظومة العدالة المصرية.
فبدلًا من أن تكون أجهزة الأمن حامية للمجتمع، باتت بعض عناصرها تشكل تهديدًا له، مستندة إلى حماية غير معلنة توفرها البيروقراطية الأمنية والقانونية.
إن "عادية" أن يعتدي أمين شرطة على جيرانه لسنوات دون رادع، أو أن يُقتل مواطن في الشارع بسلاح رسمي دون محاسبة حقيقية، تمثل خطرًا على السلم الاجتماعي وثقة الناس في الدولة.
نحو عدالة حقيقية ومحاسبة شفافة
لا يمكن إنقاذ المجتمع من "قانون السادة والميري والعبيد العاديين" إلا بإعادة الاعتبار لمبدأ المحاسبة المتساوية أمام القانون.
فالمطلوب ليس فقط التحقيق في جريمة مقتل محمد أسامة، بل محاكمة عادلة وشفافة تُظهر أن القانون لا يحمي أحدًا من المحاسبة مهما كانت رتبته.
وحتى يحدث ذلك، ستظل جرائم الأمن ضد المواطنين تتكرر، وستظل العدالة في مصر مجرد شعار يُرفع حينًا ويُغتال بالسكين أو بالسلاح الميري أحيانًا أخرى.

