اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة الذي أعلن عنه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي مؤخراً جاء في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، لكنّها لحظة شابها الكثير من التضليل الإعلامي الممنهج من قبل أذرع السيسي الإعلامية التي سارعت إلى نسب الفضل لنفسها ولقيادته السياسية. غير أن الوقائع الميدانية والمواقف الفلسطينية والدولية تشير بوضوح إلى أن الفضل الحقيقي يعود إلى صمود أهل غزة ومقاومتهم البطولية، الذين دفعوا ثمن الحرية بدمائهم، وفرضوا إرادتهم على الاحتلال، رغم كل محاولات الحصار والتدمير.
التضليل الإعلامي وصناعة البطولة الزائفة
لم تنتظر وسائل الإعلام الرسمية المصرية كثيراً قبل أن تُطلق حملات تمجيد للدور المصري، مصورة السيسي كمهندس وحيد للاتفاق، ومقدّمة تصريحاته باعتبارها “الضمانة الأساسية” لإنهاء الحرب. هذا التوظيف السياسي والإعلامي يتجاهل حقائق ميدانية أساسية: أن المقاومة الفلسطينية، بعد عامين من الحرب والحصار، هي من أجبرت الاحتلال على التراجع والقبول بشروط وقف النار، بينما ظلت القاهرة وسيطاً متأخراً يلهث خلف المتغيرات وليس صانعها.
إن محاولات تحويل معاناة الفلسطينيين إلى دعاية داخلية تخدم النظام المصري ليست جديدة، لكنها بلغت ذروتها مع هذا الاتفاق، حيث جرى تكرار سردية “الوساطة الحاسمة” في القنوات والصحف التابعة للدولة، بينما تجاهلت هذه المنصات الدور الجوهري للمقاومة التي خاضت المعركة السياسية والعسكرية بصمود استثنائي.
صمود غزة يصنع التغيير
خلال العامين الماضيين، عاش الفلسطينيون في غزة واحدة من أقسى فصول العدوان الإسرائيلي: آلاف الشهداء والجرحى، تدمير ممنهج للبنية التحتية، نزوح متكرر، وحرمان من أبسط مقومات الحياة. ومع ذلك، بقيت المقاومة ثابتة، ترد وتفاوض من موقع قوة، حتى أرغمت الاحتلال على القبول بوقف النار.
هذا الصمود هو العامل الحاسم الذي أوقف آلة الحرب، لا الدبلوماسية “القوية” التي تتباهى بها القاهرة. فقد جاءت الوساطة المصرية بعد أن فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية، وبعد أن أثبتت المقاومة قدرتها على الصمود والإرباك في الميدان.
الفصائل الفلسطينية تفضح الرواية الرسمية
البيانات الصادرة عن فصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، أكدت بوضوح أن الاتفاق لم يكن منحة من أحد، بل ثمرة لتضحيات الشعب والمقاومة. تلك المواقف كشفت زيف السردية التي تحاول نسب الإنجاز إلى القيادة المصرية.
وفي المقابل، لم تُبدِ الفصائل أي حفاوة خاصة بالدور المصري، بل ركزت على تثبيت الهدنة ومتابعة إعادة الإعمار، مما يعكس إدراكاً عميقاً لمحاولات استثمار الحدث في سياقات سياسية وإعلامية بعيدة عن واقع الميدان.
الخطاب الإعلامي بين التلميع والإنكار
في الوقت الذي يروّج فيه الإعلام الرسمي المصري لصورة السيسي كمُنقذ إقليمي، يتجاهل الإشارة إلى تضحيات المقاومين الفلسطينيين أو ذكر بطولاتهم.
التركيز الإعلامي المكثف على “الدور المصري التاريخي” يخفي حقيقة أن القاهرة لم تغيّر من سياستها تجاه غزة، وأنها أبقت المعبر مغلقاً في فترات حرجة، ولم تضغط بجدية لتأمين ممرات إنسانية دائمة. هذا التناقض بين الادعاء الإعلامي والفعل السياسي يفضح الطبيعة الدعائية للمشهد المصري الرسمي.
المشهد الدولي وشهادة الواقع
حتى المواقف الدولية، بما فيها الأوروبية والأممية، ربطت نجاح الاتفاق بتوازن القوى على الأرض، لا بوساطة فردية. وأشارت تقارير عدة إلى أن المقاومة فرضت معادلة جديدة أجبرت الاحتلال على التراجع. بينما ظلت الدبلوماسية المصرية تلعب دوراً تنفيذياً أكثر منه قيادياً، في ظل غياب رؤية إقليمية مستقلة تدعم حق الفلسطينيين في الحرية.
المقاومة هي العنوان الحقيقي
إن القراءة الموضوعية لما جرى تكشف أن ما تحقق لم يكن إنجازاً لنظام أو قائد انقلاب، بل هو ثمرة نضال شعبٍ لا يزال يدفع دمه ثمناً لحريته. فالتاريخ لن يذكر مؤتمرات السيسي ولا بيانات لجانه الإعلامية، بل سيسجّل أسماء من قاوموا وصمدوا تحت الحصار.
على الإعلام العربي الحر أن يتصدى لعمليات التزييف تلك، وأن يمنح صوتَه للشعب الفلسطيني الذي صاغ ببطولته نهاية الحرب، لا لمن استغل المأساة لتلميع صورته. فوقف إطلاق النار في غزة ليس انتصاراً دبلوماسياً بقدر ما هو شهادة جديدة على أن إرادة المقاومة هي التي تغيّر المعادلات وتعيد التوازن إلى معركة لا تزال مستمرة.