في خطوة وُصفت بأنها أشبه باعتراف رسمي بانهيار المسار الاقتصادي الذي تبنته الحكومة المصرية طوال العقد الماضي، خرج وزير المالية محمد معيط مؤخرًا معلنًا أن الحكومة بصدد إطلاق برنامج جديد للإصلاح الاقتصادي، مع الإقرار بأن "رؤية مصر 2030" لم تعد صالحة للتعامل مع التحديات الراهنة.
هذه التصريحات، التي بدت للوهلة الأولى محاولة لإعادة بث الطمأنينة في الأسواق والمستثمرين، أثارت في الواقع موجة من الجدل العارم، خاصة مع تزايد المؤشرات على دخول البلاد في نفق مالي أكثر تعقيدًا.
رؤية 2030.. مشروع يتهاوى
رؤية 2030 التي جرى الترويج لها منذ 2016 باعتبارها الخطة الكبرى لتنمية مصر وتحويلها إلى قوة اقتصادية إقليمية، كانت تُقدَّم دومًا على أنها "خريطة طريق" للإصلاح المستدام.
لكن حديث معيط الأخير عن "ضرورة تغيير الرؤية لتتماشى مع الواقع الجديد" بدا اعترافًا واضحًا بأن هذه الخطة لم تحقق أهدافها.
فبدلًا من تقليص البطالة وتحفيز النمو الإنتاجي، وجد المصريون أنفسهم أمام تضخم خانق، وانهيار الجنيه، ومشروعات ضخمة استنزفت مليارات دون عائد ملموس.
انقلاب الخبراء على السيسي
الأخطر من تصريحات معيط لم يكن مضمونها فحسب، بل ما تبعها من ردود أفعال لخبراء اقتصاديين طالما كانوا محسوبين على دوائر السلطة.
فعدد من الأصوات التي ساندت سياسات عبد الفتاح السيسي سابقًا بدأت اليوم تُحمل النظام مسؤولية ما وصلت إليه البلاد.
تصريحات محمود محيي الدين، المدير التنفيذي بصندوق النقد الدولي، حول ضرورة الاستغناء عن التبعية للصندوق، ثم هجوم المهندس ممدوح حمزة عليه معتبرًا أنه "أحد من زرعوا بذور الأزمة"، مثال صارخ على هذا الانقلاب.
أما الاقتصاديون المستقلون، مثل أحمد السيد النجار، فقد شددوا على أن "ما نعيشه ليس إصلاحًا بل إدارة للأزمة عبر الاستدانة".
أزمة ديون خانقة.. 47 مليار دولار تنتظر السداد
وسط هذه الأجواء، يواجه الاقتصاد المصري استحقاقات ديون هائلة تصل إلى 47 مليار دولار خلال الأشهر المقبلة، وهو رقم يفوق قدرة الدولة على السداد دون قروض جديدة أو تنازلات سيادية إضافية.
ويشير خبراء إلى أن استمرار الحكومة في "إدارة الأزمة بالديون" قد يقود إلى انهيار شبيه بما شهدته دول مثل لبنان وسريلانكا، حيث تتراكم الالتزامات إلى مستوى يستحيل التعامل معه.
الشارع المصري.. غضب مكتوم
على المستوى الشعبي، باتت هذه التصريحات تُقرأ باعتبارها إدانة صريحة لفشل السيسي وحكومته.
المواطن الذي يعاني يوميًا من أسعار نارّية وتراجع دخله الحقيقي، يرى أن كل "برنامج إصلاح" جديد ليس سوى غطاء لمزيد من الأعباء.
تعليقات المصريين على وسائل التواصل الاجتماعي كشفت حجم السخط: "كل ما الحكومة تفشل تطلع لنا برنامج جديد"، "رؤية 2030 كانت مجرد شعار، والآن يريدون رميها كما رُميت كل الوعود السابقة".
تغريدة حمزة.. "خُضرة الشريفة"
في هذا السياق، برز تعليق لاذع من المهندس ممدوح حمزة الذي كتب: "كل من شارك في وضع الاقتصاد الآن أصبح خُضرة الشريفة".
في إشارة ساخرة إلى النفاق السياسي الذي يمارسه بعض المسؤولين والخبراء الذين كانوا شركاء في صياغة السياسات الفاشلة، ثم يسارعون اليوم للتبرؤ منها والظهور بمظهر الحكماء.
هذه الكلمات لاقت تفاعلًا واسعًا باعتبارها تلخص مأساة مصر: أزمة نخب تفتقر إلى المسؤولية ولا تدفع ثمن أخطائها، بينما يتحمل المواطن وحده نتائج الفشل.
السيسي أمام مأزق تاريخي
تصريحات معيط، وانقلاب بعض الخبراء، وتنامي الغضب الشعبي، كلها مؤشرات على أن النظام يقف أمام مأزق تاريخي. فبينما يضغط صندوق النقد لفرض مزيد من الشروط.
وبينما تتراكم الديون على نحو غير مسبوق، تبدو قدرة النظام على الاستمرار في بيع "أوهام الإصلاح" محدودة.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أن الخطاب الرسمي يفتقر لأي مراجعة أو اعتراف بالخطأ، بل يواصل الترويج لشعارات مكررة لا تجد صدى لدى الشارع.
قد تكون تصريحات معيط بمثابة "جرس إنذار" يكشف أن الحكومة لم تعد قادرة على التستر خلف رؤية 2030 التي فشلت قبل أن تكتمل.
لكن ما يخشاه الخبراء والمواطنون معًا هو أن تتحول هذه الاعترافات إلى مجرد "مسرحية سياسية" لتمرير قروض جديدة، بينما يستمر نزيف الاقتصاد.
ومع تصاعد الأصوات الناقدة من داخل النظام نفسه، يصبح السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام لحظة انهيار اقتصادي جديد، أم أن النظام سينجح كعادته في شراء مزيد من الوقت على حساب أجيال كاملة؟