منذ انقلاب 2013، تشهد شبه جزيرة سيناء واحدة من أخطر التحولات الديموغرافية في تاريخها الحديث، مع تراجع مستمر في الكثافة السكانية، وخاصة في شمال سيناء، وتؤكد تقارير حقوقية وأكاديمية أن هذا الانخفاض ليس ناتجًا عن تطورات طبيعية، بل بفعل سياسات ممنهجة تتضمن الإخلاء القسري، والحصار العسكري، والعمليات الأمنية التي طالت المدنيين، تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب".

 

انخفاض حاد في الكثافة السكانية

تشير إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن محافظة جنوب سيناء يبلغ عدد سكانها حوالي 113,619 نسمة فقط، أي 0.1% من إجمالي سكان مصر، وشمال سيناء التي تبلغ مساحتها حوالي 27 ألف كيلومتر مربع، كانت تضم قبل عام 2013 حوالي 450,528 ألف نسمة، أي 0.5% من السكان، رغم أن المحافظتين تشكلان 6% من مساحة مصر.

أما اليوم، فلا تتعدى تقديرات غير رسمية عدد السكان الفعليين فيها 220 إلى 250 ألفًا، أي بانخفاض يقارب 45 %  في بعض المناطق، خاصة العريش ورفح والشيخ زويد.

وتشير تقديرات وسائل الإعلام المستقلة إلى مقتل مئات المدنيين في شمال سيناء منذ 2013 بسبب الصراع.

معدل النمو السكاني العام في مصر يبلغ 2.56%، بينما لا تتناسب الزيادة في المساحة المزروعة مع هذا النمو، مما يزيد من الضغط على الموارد.

وفي دراسة أعدها الباحث في الشأن السيناوي سالم أبو لافي، نشرت عام 2022، أُشير إلى أن مدينة رفح وحدها تم تهجير نحو 80 %  من سكانها، الذين تجاوز عددهم 70 ألف نسمة قبل بدء حملة الإخلاء، وقد جرى هدم أكثر من 12 ألف منزل وتجريف آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية.

 

الأسباب الرئيسية لانخفاض الكثافة السكانية في سيناء

  1. الإخلاءات القسرية والتهجير القسري

بدأت أزمة تهجير أهالي سيناء بشكل مكثف بعد تصاعد العمليات العسكرية منذ انقلاب 2013، حيث أصدرت السلطات المصرية قرارات جمهورية وتشريعات تسمح بتحكم المؤسسة العسكرية في أراضي سيناء، وفرضت قيوداً شديدة على حرية حركة السكان المحليين.

بحسب تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" عام 2019، فإن القوات المصرية "انتهكت بشكل ممنهج حقوق السكان المحليين، عبر الإخلاء القسري دون تعويض عادل أو توفير بدائل سكنية"، وهو ما أدى إلى موجات نزوح جماعية.

وثقت منظمة "سيناء لحقوق الإنسان" استمرار مأساة التهجير القسري، حيث فقد آلاف السكان منازلهم وأصبحوا بلا مأوى، مع تعويضات ضعيفة وغير شفافة، وفق مقابلات أجريت مع السكان بين 2022 و2024.

 

  1. الحرب على الإرهاب والانتهاكات الأمنية

منذ 2011، تشهد شمال سيناء صراعاً مسلحاً بين الجيش المصري ومسلحي تنظيم "ولاية سيناء" التابع لداعش، ما أدى إلى اعتقالات تعسفية، اختفاء قسري، تعذيب، قتل خارج نطاق القانون، وإخلاءات قسرية واسعة النطاق.

وثقت هيومن رايتس ووتش مئات حالات القتل المدنيين والنزوح القسري، وتحولت مناطق مأهولة سابقاً إلى مدن أشباح، بسبب العنف المستمر.

  1. الإنشاءات العسكرية والتوسع الأمني

أنشأت حكومة الانقلاب العسكري منطقة أمنية على طول الحدود مع قطاع غزة في رفح، شملت هدم مئات المنازل وإخلاء السكان، مع إنشاء نقاط تفتيش وإغلاق طرق، مما زاد من معاناة السكان المحليين وقلل من فرص عودتهم.

منذ إعلان نظام الانقلاب المصري في أكتوبر 2014 بدء إقامة المنطقة العازلة مع قطاع غزة، شرعت القوات المسلحة في عمليات إزالة وهدم موسعة للمنازل الواقعة في نطاق 1,000 متر على طول الحدود، تحت مزاعم "محاربة الأنفاق والإرهاب".

وقد وثق التقرير هدم أكثر من 3,600 مبنى في رفح بين عامي 2013 و2018، فضلاً عن تدمير ما لا يقل عن 6,000 فدان من الأراضي الزراعية، هذه العمليات لم تقتصر على رفح، بل امتدت لتشمل الشيخ زويد وأطراف العريش.

 

تصريحات رسمية تكشف النوايا

في تصريحات تلفزيونية عام 2016، قال قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي: "نحن نواجه حربًا شرسة في سيناء، ومن حق الدولة أن تتخذ الإجراءات التي تضمن الأمن القومي"، بينما قال المتحدث العسكري السابق، العميد تامر الرفاعي، في بيان رسمي عام 2018: "القوات المسلحة تقوم بتطهير سيناء من البؤر الإرهابية، وإقامة مناطق عازلة لصالح الأمن القومي".

إلا أن محللين يرون في هذه التصريحات غطاءً لسياسات إعادة تشكيل ديموغرافي، ووفقًا للباحث عمرو عادلي، في دراسة نشرها مركز كارنيغي للشرق الأوسط عام 2021، فإن "ما يحدث في سيناء ليس فقط حربًا على الإرهاب، بل مشروع لإفراغ الأرض من أهلها وتحويلها إلى منطقة أمنية بحتة، خدمةً لمصالح سياسية وعسكرية واستثمارية".

 

التداعيات.. أزمة إنسانية وتهديد للنسيج الاجتماعي

أدى التهجير القسري إلى تفكك العائلات، وحرمان آلاف الأطفال من التعليم، إضافة إلى انهيار الاقتصاد المحلي المبني على الزراعة والتجارة الحدودية، كما أن القيود المفروضة على الحركة في مدن سيناء والتي تشمل حظر دخول مواد البناء، وتعطيل الاتصالات، والتضييق على التنقل زادت من عزل السكان.

وفي تقرير صدر عن "المفوضية المصرية للحقوق والحريات" عام 2023، تم توثيق أكثر من 150 حالة اعتقال تعسفي شهريًا في شمال سيناء، معظمها دون توجيه تهم، إضافة إلى حالات اختفاء قسري طالت نساء وأطفالًا.

يؤكد الباحث خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة كامبريدج، أن ما يحدث في سيناء "يشبه سياسات العقاب الجماعي، ويخلق أرضًا خصبة للتطرف مستقبلًا، بدلًا من القضاء عليه"، مضيفًا أن "فقدان الثقة بين الدولة والسكان في سيناء بات عميقًا لدرجة قد تهدد أي مسار للتنمية أو السلام مستقبلاً".

 

عسكر وإنشاءات.. على أنقاض السكان

تزامن التهجير السكاني مع توسع واضح في إنشاء قواعد عسكرية ومشاريع خدمية تديرها جهات تابعة للجيش أو الأجهزة السيادية، وقد رصد تقرير لموقع "مدى مصر" في أواخر 2024، نقل ملكيات مساحات واسعة من الأراضي التي تم إخلاؤها إلى جهات أمنية أو شركاء من القطاع الخاص، ما يثير تساؤلات حول الهدف الحقيقي من عمليات الإخلاء.

ويشير التقرير إلى أن شركات مرتبطة بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة حصلت على امتيازات لتنفيذ مشاريع بنية تحتية على طول محور العريش – رفح، بينما ظل السكان المهجرون دون تعويضات أو حق في العودة.

 

سياسة إفراغ تحت غطاء التنمية

ما جرى في سيناء خلال السنوات الماضية لا يمكن فصله عن توجه النظام لتأمين شبه الجزيرة عبر تفريغها من سكانها الأصليين، والاعتماد على القوة العسكرية بدلاً من التنمية البشرية، وقد خلصت دراسة لمعهد "ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" (SIPRI) عام 2023، إلى أن "غياب المشاركة المجتمعية، والتضييق على المجتمع المدني، وتجاهل الحلول السلمية، أدت إلى حالة احتقان في سيناء قد تستمر لأجيال".

 

المصادر..

  • تقرير منظمة "سيناء لحقوق الإنسان" حول التهجير القسري والتعويضات الضعيفة (2024)
  • تقرير هيومن رايتس ووتش عن الانتهاكات الأمنية في شمال سيناء (2019)
  • بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حول التوزيع السكاني في مصر (2022)
  • تحليلات المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية حول الأوضاع الأمنية في سيناء (2024)