أشارت مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي إلى أنّ إسرائيل استغلت سيطرتها على الغذاء والكهرباء والاحتياجات الأساسية في غزة، قبل السابع من أكتوبر 2023، لتحقيق أهداف سياسية. وبعد هجوم حماس، صعّدت حكومة بنيامين نتنياهو هذه السياسات إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تُوظف اليوم هذه السيطرة، بالتوازي مع العمليات العسكرية، لدفع السكان المدنيين نحو جيوب صغيرة محاصرة، في خطوة تُعتبر تمهيدًا لتنفيذ ما يُعرف بـ"خطة ترامب".
خطة التهجير تحت غطاء “الطوعية”
أعلن دونالد ترامب، خلال لقائه مع نتنياهو في البيت الأبيض، خطة تقضي بـ"الترحيل الطوعي" لأكثر من مليوني فلسطيني من غزة، وادعى أن مغادرتهم ستمكّنهم من "النجاة من الدمار". لاحقًا صرّح بأنهم "لن يرغبوا في العودة"، مما يكشف النية لإنشاء واقع دائم من التهجير.
تداولت الأوساط اليمينية في الحكومة الإسرائيلية الفكرة منذ بدايات الحرب، بل قبلها. دعا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى التهجير منذ 2017 في وثيقته "خطة الحسم"، ودعا معهد "مسغاف"، المرتبط بنتنياهو، في 17 أكتوبر 2023، إلى إخلاء غزة بالكامل، واقترحت وثائق رسمية أخرى إعادة توطين السكان خارج القطاع لأسباب "إنسانية"، بالتنسيق مع مصر.
الحصار كسلاح استراتيجي
فرضت الحكومة الإسرائيلية، بعد لقاء نتنياهو بترامب، حصارًا شاملاً على الغذاء والماء والمساعدات. بعد أكثر من تسعين يومًا، دخل القطاع مرحلة مجاعة كارثية. أشار تصنيف الأمن الغذائي العالمي إلى أنّ غزة أصبحت تحت أشد درجات انعدام الأمن الغذائي المسجّلة منذ عام 2004.
يواجه السكان ظروف مجاعة من صنع الإنسان، ويحتاج نحو 71 ألف طفل و17 ألف أم إلى علاج عاجل، وفقًا لليونيسف. أطلقت إسرائيل، بعد أسبوعين من بدء الحصار، عملية عسكرية برية جديدة باسم "مركبات جدعون"، دعت إلى إعادة احتلال غزة وتجميع السكان في "منطقة إنسانية" واحدة جنوبًا. تجاوزت أوامر الإخلاء 80% من مساحة القطاع، ما عرقل جهود الإغاثة الإنسانية.
مؤسسة غزة الإنسانية – أداة للتهجير
أُنشئت "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF) في مايو، وسُجّلت في ولاية ديلاوير الأميركية، لتكون آلية بديلة لتوزيع المساعدات داخل غزة. يوزّع المساعدات متعاقدون أميركيون خاصون، وتُؤمَّن نقاط التوزيع عبر الجيش الإسرائيلي، بدلاً من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية.
يُحدد توزيع المساعدات في أربع نقاط جنوبية فقط، ما يضطر الأسر إلى التنقل لمسافات طويلة. اعتمدت المؤسسة على دعم سياسي يميني، بحجة أنّ الأمم المتحدة ليست "موالية لإسرائيل"، رغم نفي جهات دولية، منها برنامج الأغذية العالمي، لوجود أي دلائل على تسرب المساعدات إلى حماس.
استقال المدير الأول للمؤسسة، جيك وود، قبل إطلاق المشروع، محذرًا من عدم قدرة المؤسسة على العمل باستقلالية. تولى القيادة لاحقًا القس الأميركي جونّي مور، المقرّب من ترامب، والذي سبق أن دعم فكرة تحويل غزة إلى منطقة سياحية "رفييرا".
مخالفات إنسانية وعنف
شهدت مواقع توزيع المساعدات حوادث دامية، قُتل فيها 224 شخصًا وأُصيب 1800 آخرون. لجأت المؤسسة إلى تقنيات التعرّف على الوجوه، واستخدمت شركات أمنية خاصة، ما أثار انتقادات قانونية وإنسانية.
اتهم زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، حكومة نتنياهو بتمويل المشروع عبر شركات أجنبية وهمية. تُقدّر تكاليف تشغيل المؤسسة بأكثر من 140 مليون دولار شهريًا، ويُوظف فيها نحو 300 متعاقد. لم تكشف المؤسسة عن مصدر تمويلها، واكتفت بالقول إن دولة أجنبية قدمت دعمًا يتجاوز 100 مليون دولار.
ردود الفعل الدولية
رغم إعلان ترامب أنه لا يريد مجاعة في غزة، لم يصدر أي تصريح ملموس خلال جولته الأخيرة في الخليج. استمرت المفاوضات بين الولايات المتحدة وإسرائيل وحماس دون نتيجة. ركّز ترامب على اتفاقات ثنائية مع أطراف أخرى، منها صفقة لإطلاق رهينة أميركي إسرائيلي، وتخفيف العقوبات على سوريا.
وأعلنت دول عدة، منها بريطانيا وكندا والنرويج، فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين بسبب تحريضهم على العنف. تحركت دول الجنوب العالمي، بقيادة جنوب أفريقيا، للضغط عبر المحكمة الدولية في لاهاي، واقترحت فرض حظر سلاح وعقوبات.
ورغم الاجتماعات والتصريحات الغاضبة، لم تُنفذ حتى الآن إجراءات دولية حقيقية لوقف الكارثة أو الضغط على حكومة نتنياهو. في 4 يونيو، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار ورفع القيود على دخول المساعدات. يُنتظر أن يشهد مؤتمر الأمم المتحدة حول حل الدولتين في 17 يونيو تحركات جديدة.
أعلن نتنياهو، في جلسة مغلقة بالكنيست، أن تدمير منازل غزة جارٍ بوتيرة متسارعة، وأن الفلسطينيين "لن يجدوا مكانًا للعودة"، ما يجعل التهجير النتيجة "الطبيعية". تُستخدم مؤسسة غزة الإنسانية وسيلة ضغط، وليست مشروعًا إنسانيًا حقيقيًا.
أمام المجتمع الدولي والدول العربية مسؤولية ملحّة للتحرك الفوري، وفتح المعابر – خصوصًا رفح وكرم أبو سالم – أمام مئات الشاحنات يوميًا، عبر الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية، لإنهاء المجاعة ومنع تهجير جماعي لشعب غزة.
https://carnegieendowment.org/emissary/2025/06/gaza-ghf-humanitarian-aid-trump-plan?lang=en